الدولة العثمانية لم تكن خلافة إسلامية

ـ السلطان سليم لم ينتظر وفاة والدة ليتسلم مقاليد الحكم، فعمد إلى محاربته ثم نفيه و قتلة! ثم أمر بقتل إخوته وأبنائهم جميعاً كي لا ينازعه أحدا على الملك.

ـ بدأ السلطان مراد الثالث عهده بقتل إخوته الخمسة خنقاً، وكذلك فعل السلطان محمد الثالث سنة ١٥٩٥ الذي قتل كل إخوته التسعة عشر خنقاً أيضاً، وطبعاً كلاهما كانا يحملان لقب ”الخليفة“!

ـ لم يهتم أحدهم بلقب ”الخليفة“ ولم يستعملوه إطلاقاً واستمروا في استعمال لقب ”سلطان“ حتى نهاية دولتهم

د. موسى الحمداني

مع أن دراسة التاريخ بعيدة عن تخصصي إلا أنني كنت ولا أزال شديد الميل لقراءة كتب التاريخ عموماً والتاريخ الإسلامي خصوصاً. ورغم ذلك فلا أزال أذكر كيف أنني في يوم ما قبل أكثر من أربعة عقود فشلت في الإجابة على سؤال بسيط من شاب بسيط. كان السؤال: ”في أي عام انتهت الخلافة الإسلامية؟“. كان تقديري أن ألخلافة الإسلامية انتهت بمقتل علي بن أبي طالب وبداية الدولة الأموية، فصححني الشاب، وكان يقيم و يدرس في السعودية بأنها في الواقع انتهت سنة ١٩٢٤. استهجنت يومها ذلك ”التصحيح“ ولكني لم أعير الأمر اهتماما كبيراً وغالباً ما قلت لنفسي ”ماذا نتوقع من التعليم السعودي؟“ ومضت السنون لأرى أن العالم العربي بمجمله، بل والعالم ألإسلامي أيضاً، مقتنع “بحقيقة“ أن الخلافة الإسلامية انتهت سنة ١٩٢٤، عامين بعد نهاية الدولة العثمانية.

الخلفاء الراشدون:

كان أبو بكر هو أول من حصل على لقب ”خليفة رسول الله“، بعد أن بايعه المسلمون في ذلك الاجتماع المشهور في تلك السقيفة المشهورة. والمبايعة في ذلك الزمن المبكر كانت بمكانة انتخابات ذلك العصر. وفعلاً نهج أبو بكر في حياته الخاصة، وإدارته لشئون ألمسلمين، نهج رسول الله، حتى توفاه الله. ومن بعده بويع عمر وعثمان وعلي. لكن الحال أختلف كثيراً بعد مقتل علي بن أبي طالب، فمعاوية بن أبي سفيان، الذي تسلم مقاليد الحكم في الدولة الإسلامية، كان في واقع الأمر معارضاً للدولة الإسلامية بل عدواً محارباً لها وعاصياً لخليفة رسول الله. نعم، هناك من بايع معاوية، لكنها لم تكن مبايعة حُرَّة لأنه كانت من بطانته أو جاءت تحت سطوة السلاح. ثم أن معاوية لم ينهج في حكمه نهج رسول الله، فرغم أنه لقّب نفسه ”خليفةً“ إلا أنة جعل من نفسه في حقيقة الأمر ملكاً وجعل من الدولة الإسلامية مُلكاً له و لأولاده من بعده.

الدولة الأموية:

وقد أدرك المسلمون من البداية ذلك الخلل في تسلسل الخلافة وأنكروه، بل أن كثيراً منهم، خاصة في المدينة ومكة، أحجموا عن مبايعة معاوية. وأدرك المسلمون أيضاً أن معاوية نَهَج في الحكم نهجاً غريباً وابتدع فيه بدعاً كثيرة غريبة كل الغرابة عن ما عاهدوه في الإسلام، ولكنه لم يكن في طاقتهم إلا أن يشيروا إليه باللقب الذي ارتضاه لنفسه، فلم يكن بأيديهم حول ولا قوة. أدرك المسلمون أن ”خلافة“ معاوية المزعومة كانت اسمية ولا تمتُّ لخلافة سابقيه بصلة قريبة ولا بعيدة. وللتمييز بين الحلافتين المختلفتين أشد الاختلاف: الخلافة ألإسلامية والخلافة الأموية، أطلق المسلمون اللاحقون على الخلفاء الأربعة، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، لقب ”الخلفاء الراشدون“، مما يعني أن ”خلافة” بني أمية ومن تلاهم، في نظر المسلمين، لم تكن خلافة راشدة. وكان ذلك أسلوب مهذب للقول بأنها كانت خلافة زائفة أو ملكية مقَنَّعة.

لم تقتصر تجاوزات بني أمية على عصيان معاوية لأمير المؤمنين والخروج علية وقتاله، بل تعدت ذلك وتواصلت لسنين طويلة بعد معاوية وأبنائه. بل هم أمعنوا في تجاوزاتهم إمعاناً شديداً فخرجوا على الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير، الذي بايعه مسلمو مكة والمدينة ومناطق في الشام ليكون خليفة للمسلمين. أثار ذلك حفيظة الأمويين فأرسلوا جيوشهم لقتال بن الزبير واعتدوا على الكعبة مرتين وقصفوها بالمنجنيق ودمروها وأحرقوها وفتكوا بالمسلمين الذين ناصروه. تذكر المصادر الإسلامية أن القائد الأموي مسلم بن عقبة، الذي كان يعمل بأوامر من ”الخليفة“ يزيد بن معاوية، أباد ألآلاف من الصحابة وأبنائهم والتابعين في معركة الحرّة سنة ٦٣ هجرية وسمح لجنوده باستباحة المدينة لمدة ثلاثة أيام يقتلون الناس وينهبون الأموال.

قد يرى البعض أن هذا طعن في الدولة الأموية التي كانت صاحبة الفضل الأكبر في معظم الفتوحات الإسلامية. إن كان طعناً فما هو إلا طعن حقائق التاريخ الذي نستند علية والذي نتعمد أن نشيح بوجوهنا عنها كلما طلت علينا من ثنايا الماضي و صفحات الكتب. لم يعد مقبولاً في عصر الإنترنت أن ندفن رؤوسنا في الرمال وأن نشيح بوجوهنا كي لا نرى أن بعض صفحات تاريخنا ملطخة بالدماء. النجاحات العسكرية المبهرة التي تحققت في العصر الأموي ما كانت إلا انعكاسا للطموحات التوسعية ”لخلفاء“ بني أمية، أو ملوكهم إذا شئت الدقة، ونجاحهم في إقامة دولتهم القوية وإدارتها بكفاءة عالية. والتاريخ العالمي غنيٌّ بأمثلة الإمبراطوريات التي بدأت من لا شيء و قامت ونهضت اقتصاديا وعسكرياً وتوسعت جغرافياً لتبتلع كل ما حولها من ممالك وإمبراطوريات، وما مثال التتار عنا ببعيد .

نعم، لنا أن نفخر بإنجازات الدولة الأموية وانتصاراتها العسكرية العظيمة ولكن علينا أيضاً أن نتقبل أنه كان في تاريخها الكثير من الصفحات السوداء، فذلك شأن كل الإمبراطوريات عبر التاريخ. علينا أن نتقبل أنه لم يكن معاوية ولا يزيد ولا عبد الملك بن مروان ولا غيرهم من ”خلفاء“ بني أمية، ”خلفاء مسلمين“ حتى وإن كانوا كذلك يلقبون ، بل كانوا ملوكاً كسائر الملوك، جلسوا على عروشهم بالوراثة ولم يبايعهم من المسلمين إلا بطانتهم.

الدولة العباسية:

وما ينطبق على بني أمية ينطبق أيضاً على بني العباس. فلم يكن ”خلفاء“ بني العباس بأفضل حالاً من سابقيهم، فهم أيضاً اغتصبوا ”الخلافة“ بحد السيف فحاربوا بني أمية وانتصروا عليهم ثم غدروا بسادتهم في حفل عشاء فاخر و أبادوا معظمهم. وهكذا آلت دولة بني أمية، بكل ما فيها من قوة وثراء، إلى بني العباس. لم ينشغل بنو العباس بالجهاد والفتوحات كما فعل بنو أمية، فاكتفوا بالدولة الشاسعة، ذات الأطراف المترامية، التي غنموها. و تورط بنو العباس بصراعات داخلية كثيرة لا حصر لها من أجل الحكم. فتصارع ”ألخليفة“الأمين مع أخيه المأمون، أبناء هارون الرشيد، لمدة أربع سنين انتهت بمقتل الأمين. وفاحت روائح الفساد في الحكم و شاع التذمر بين المسلمين مما أدى إلى أن نهايات الكثير من خلفاء بني العباس كانت نهايات مأساوية محزنة مصبوغة بالدم و التعذيب والقتل ( مثل الخلفاء: المتوكل، المستعين، المعتز، المنتصر، المهتدي، المتقي والمستكفي وغيرهم من الخلفاء الذين قتلوا أو عذبوا أو فقئت أعينهم وتركوا ليلاقوا حتفهم ).

نعم، ندرك حجم الإنجازات العلمية والأدبية التي تمت في العصر العباسي ونقدرها ونفخر بها، ولكننا ندرك أيضاً أن سيرتهم لم تكن كلها ناصعة وأن تاريخهم كان مزيجاً من الصفحات البيضاء والسوداء. وكذلك حال الإمبراطوريات جميعاً، قديمها والحديث، ففي الغالب أنة لا يصل إلى السلطة ملائكةً أو قديسين بل طغاة ظالمين.

الدولة العثمانية

انتهت دولة بني العباس بسقوط بغداد سنة ١٢٥٨ عندما اجتاحها التتار بقيادة هولاكو. إلا أن المماليك في مصر قاموا باستضافة بعض الأسر العباسية الهاربة وقاموا بتعيين واحداً منهم كخليفة بشكل اسمي فقط من غير أن يكون له أي سلطة واستمر الحال كذلك إلى أن اجتاح العثمانيون الشام ومصر وسقوط القاهرة على يد السلطان العثماني سليم الأول سنة ١٥١٧.

السلطان سليم لم ينتظر وفاة والدة ليتسلم مقاليد الحكم، فعمد إلى محاربته ثم نفيه و قتلة! ثم أمر بقتل إخوته وأبنائهم جميعاً كي لا ينازعه أحدا على الملك. وبعد أن انفرد في الحكم بدأ فتوحاته، ليس لنشر الإسلام في أوروبا المسيحية، بل ليعتدي على المسلمين الآمنين في بلادهم، فاجتاح عليهم بلاد الشام ومصر وكانتا تحت حكم المماليك. تصدى المماليك للجيوش العثمانية فوقعت معارك طاحنة بين الطرفين نتج عنها مصرع عشرات الآلاف وانتهت بهزيمة المماليك ودخول السلطان سليم مدينة القاهرة ظافراً منتصراً. وبمزيج من التملق والخوف، تقدم الخليفة العباسي (الاسمي) ،الذي كان مقيماً في القاهرة، وعرّف نفسه للسلطان المنتصر وأعلن أنه يتنازل عن لقبة ”كخليفة“ للسلطان سليم. لم يطلب السلطان سليم الحصول على اللقب الجديد وربما لم يأبه به كثيراً، لكنة قبلة على أي حال وأبقى على حياة ”الخليفة“ العباسي.

فهكذا أصبح السلطان سليم أول خليفة في الدولة العثمانية. لكن ماذا كانت سيرته؟

رجل انشق على والدة السلطان وانتصر علية و نفاه وتسبب في موته ثم انقض على إخوته وأبنائهم فقتلهم جميعاً ليتسنى له الإنفراد في الحكم. ثم سطا على بلاد المسلمين وحاربهم وأباد منهم ألآلاف واستولى على ديارهم. تلك كانت سيرة ”الخليفة“ العثماني الأول. ولم تكن سيرة ”الخلفاء“ الذين جاؤوا من بعده بأفضل كثيراً، ففي سنة ١٥٧٤ بدأ السلطان مراد الثالث عهده بقتل إخوته الخمسة خنقاً، وكذلك فعل السلطان محمد الثالث سنة ١٥٩٥ الذي قتل كل إخوته التسعة عشر خنقاً أيضاً، وطبعاً كلاهما كانا يحملان لقب ”الخليفة“!

الحقيقة أنة لم يهتم السلطان سليم، ولا السلاطين الذين جاؤوا من بعده، بلقب ”الخليفة“ ولم يستعملوه إطلاقاً واستمروا في استعمال لقب ”سلطان“ حتى نهاية دولتهم التي ألغاها مصطفى كمال أتاتورك سنة ١٩٢٢ وأقام على أنقاضها الجمهورية التركية.

هرب، محمد السادس، آخر سلاطين آل عثمان، على بارجة إيطالية ليعيش في المنفى مجرداً من نفوذه ومن لقبة كسلطان. فقط في منفاه تذكر السلطان السابق أنة لا يزال يحمل لقب ”خليفة“ فحاول إعادة الحياة لذلك اللقب المنسي علّه يبقي على بعض النفوذ عند المسلمين مما أضطر كمال أتاتورك إلى إلغاء ”الخلافة “ نهائياً سنة ١٩٢٤.

بعد هزيمة الدولة العثمانية وسقوطها على أيدي دول أوروبا المسيحية، أصيب كثير من الإسلاميين العرب بالهلع وأخذوا يولولون على الخلافة الإسلامية الفقيدة. بل لا يزال الإسلاميون العرب يتغنون بمآثر الخلافة ويبالغون بمحاسنها وأمجادها بل وينسبون لها من المكارم ما لم يكن فيها.

تناسى أولئك الإسلاميون، فيما تناسوا جرائم الطاغية أحمد جمال باشا و يوم الشهداء (السادس من أيار) الذي أعدم فيه ذلك السفاح العشرات من وجهاء العرب ومثقفيهم بدم بارد وبلا ثبوت أي تهمة ضدهم. ثم تناسوا أنة في القرن الأخير من حياة الدولة العثمانية، تغلغلت العنصرية التركية في كل أجهزة الدولة. بل أن السلطان أصبح أداة في يد تركيا الفتاة أو جمعية الإتحاد والترقي المتعصبة عرقياً للعنصر التركي. لقد عانى العرب وغيرهم من الكثير من التمييز العنصري ضدهم. و كان العرب العنصر الأكثر عدداً في الدولة العثمانية وكانوا يخوضون حروباً ليس لهم فيها ناقة ولا جمل بناء على أوامر السلطان ومع ذلك قلما وصل منهم ضباط إلى رتب عالية في الجيش العثماني أو مؤسسات الدولة الأخرى. فالمناصب العليا كانت غالباً حكراً للأتراك.

وأي خلافة يتحدث الإسلاميون عنها؟

هل يعقل أن يدخل خليفة المسلمين حرباً كونية من غير أدنى درجات الاستعداد ويضحي بالملايين من أرواح المسلمين فقط لإرضاء قيصر ألمانيا وتحالفاته؟

الأوربيون إلى الآن يتعسر عليهم فهم الأسباب التي قادت إلى الحرب العالمية الأولى، لأنها كانت حرباً لا ضرورة لها ولا تبرير. التحالفات القائمة واغتيال ارشيدوق النمسا ليست أسباباً مقنعة لإشعال حرب كان الجميع يعرف أنها ستأكل الأخضر واليابس ولا تزال البشرية تدفع ثمنها إلى الآن.

الخلافات والصراعات الأوروبية كانت شئوناً أوروبية ليس للمسلمين فيها ناقة ولا جمل، فأي خليفة أهوج يدخل حرباً كتلك؟

ومع ذلك، وعلى فرض أن الخلافة العثمانية لا تزال قائمة إلى اليوم، لا أستطيع إلا أن أتخيلها إلا وهي في صراع محتدم مع الإخوان المسلمين نفس الجماعات الإسلامية التي تتمنى وجودها. فالإخوان في حقيقة الأمر لا يريدون الخلافة إلا إذا كانوا هم الخلفاء.

لكن وبالنظر إلى الخلف، نجد أنه رغم كل العيوب التي اُبتليت بها الدولة العثمانية فأنها كانت أفضل لنا كعرب من البدائل التي حصلنا عليها. ومما يجعلني أميل أكثر إلى هذا الاعتقاد أنه كانت هناك إشارات ودلائل على أن الدولة العثمانية كانت في حالة استعداد للتطوير والتحديث في كل المجالات، وللأسف لم يمهلها القدر لتحقيق شيء من ذلك. أنا فعلاً أتمنى لو أن الدولة العثمانية لم تهزم واستمرت في حكم العالم العربي، فذلك كان أفضل كثيراً لنا من سايكس بيكو ووعد بلفور. لكن ذلك لا يعني أن نستغفل أنفسنا وندعي أن الدولة الفقيدة كانت خلافة إسلامية حقه. إلصاق لقب الخلافة الإسلامية بالدولة العثمانية هو إهانة للإسلام بقدر ما هو إهانة للخلافة. فليس من سلاطين الدولة العثمانية من حكم بالإسلام الحق كما فهمه المسلمون وكما مارسه الخلفاء الراشدون، و الدولة التي اشتهرت بقصور الحريم لم تأخذ من تعاليم الإسلام إلا القشور.

.