الثوابت العربية

محمد الجندي

يتساءل المرء إن كانت هناك ثوابت عربية، ربما هذه الكلمة المستعملة كثيرا عربيا غير معروفة دلالتها المقصودة بدقة لدى غير العرب، وغير معروفة بدقة لدى الكثيرين. المقصود بـ”الثوابت”، البنود الثابتة في البرامج السياسة العربية، سواء قصد بها المرء برامج الإدارات أم برامج التنظيمات السياسية.

ولكن هل هناك برامج سياسة عربية لكي يكون هناك “ثوابت”؟

مع الأسف البرامج السياسة لدى أغلب الإدارات العربية يصنعها الغير، أوليس لديها برامج سياسية أصلا؟

هل لدى الإدارات العربية برامج “مستقلة” تتعلق بثروات البلد الطبيعية، بالاستثمارات، بالبطالة، بالفقر، بالدفاع عن البلد، الخ؟

هل الانعطاف نحو اللبرالية الجديدة (الخصخصة، السوق الحرة، فتح الأسواق، رفع الدعم عن المواد المستهلكة، أو عن الصناعة أو الزراعة للصالح الوطني، ولصالح الفئات لمهمشة، إخضاع العمل الإنساني لقانون السوق، الخ) في هذا البلد أو ذاك مبني على برنامج سياسي؟

هل السياسات المالية والإعلامية والدفاعية مبنية على برامج سياسية؟

لقد وصل الأمر، بأغلب الإدارات العربية، إلى درجة أنه حتى الحكومات ليس لديها بيان سياسي. طبعا البيان السياسي قد لا يقيدها، ولكن عدم وجود البيان يعني إن مسيرتها وتصرفاتها عشوائية وغير خاضعة لأي منطق. الوضع لا يختلف كثيرا لدى التنظيمات السياسية، فهذه قد يكون لديها إطار إيديولوجي عام، ولكن ليس لديها برامج عمل سياسية، فالانتماء إليها يعتمد غالبا على حسن نوايا قادة تلك التنظيمات، الذين حتى ولو كانوا حسني النية، فإن تحركهم الخاضع للظروف يبقى عشوائيا.

ومادامت البرامج السياسية غامضة، أو غير موجودة، فأين هي الثوابت؟

هذه هي بالحقيقة موروثات معدلة قليلا أو كثيرا عن فترة الستينات من القرن الماضي. وقتها كانت المطالب الشعبية بالنسبة لكل بلد هي التحرير الكامل من الاستعمار ومن النفوذ الإستعماري، وتأميم الاحتكارات الأجنبية وطنيا، وتأميم المؤسسات الاقتصادية الكبرى لصلح الشعب، وحماية العمال وحقوقهم، ودعم المواد والخدمات ذات الضرورة الأولية لصالحهم، والإصلاح الزراعي، ودعم الفلاحين،الخ. وبالنسبة لفلسطين كانت الثوابت تحرير الأرض وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم الخ.

الثوابت والموروثات لم تعد ثوابت إلا في ذاكرة البعض تقريبا. فالثوابت الاجتماعية انتقلت إلى المسار التقدمي (التأميم والإصلاح الزراعي ودعم العمال والمهمشين، الخ، وتحرير الاقتصاد) إلى الليبرالية والطائفية، و ثوابت التحرر انتقلت إلى المزيد من الالتصاق بالإدارة الأمريكية.

“الثوابت” في العراق انتقلت إلى حرب دموية عراقية إيرانية، وإلى غزو للكويت، وانتهى الأمر بدمار العراق واحتلاله في النهاية.

و”الثوابت” في فلسطين انتهت باتفاق أسلو وبصراع طائفي على السلطة التابعة أصلا للإدارة الإسرائيلية، أدى إلى فصل قطاع غزة عن الضفة، وانتهت بالأوضاع المأسوية للفلسطينيين سواء في الضفة أو في القطاع وحتى داخل إسرائيل.

ناهيك عن الثوابت في سوريا واليمن وليبيا ولبنان ….

المورثات ليست ثوابت، وحتى توجد ثوابت اقتصادية- سياسية في المنطقة من المفروض أن توجد أولا برامج سياسية مستقلة. فالبرامج غير مستقلة سواء بالنسبة للإدارات، أو بالنسبة للتنظيمات، إن وجدت، تنطوي على “ثوابت” الغير لا على الثوابت الوطنية.

ولكن البرامج المستقلة ليست مجرد بيان سياسي يكتبه أحد المنشئين، وإنما تبقى دون معنى ما لم تعبر عن واقع وطني وإقليمي ودولي. عندما تصنع دولة من العالم الثالث برنامجا يتضمن أنها ستغزو القمر، يكون البرنامج من نوع الهلوسة. أيضا يبقى البيان السياسي نوعا من الهلوسة الدعائية، إذا ما تضمن في دولة رأسمالية القضاء على الفقر والبطالة الخ، قد يكون البيان واقعا نسبيا، إذا ما وعد بإصلاحات جزئية، مثل تعديل التشريعات المتعلقة بالعمال إلى الأفضل.

الثوابت- الموروثات العربية كبيرة جدا، وتقتضي من الإدارات العربية تغيير سياساتها ومواقفها 180 درجة، ومن التنظيمات السياسية الانتقال من السجلات النظرية إلى النضال.

المنطقة العربية المفتوحة المنهزمة المنكوبة بالاحتلال وبالهيمنة الاستعمارية، وشعبا بتدني المستويات المعيشية، لدرجة الفقر والجوع أحيانا، وبالتمزق الطائفي، والمهدد بالعدوان في أي لحظة، تحتاج أولا تعبئة شعبية واسعة حول “الثوابت” ومن دون ذلك تبقى “الثوابت” في الهواء، وثانيا، عملا مستمرا على مختلف الأصعدة (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية) هو في نفس الوقت مرافق للتعبئة الشعبية وحافز لها. وثالثا، استراتجيات دفاعية ضرورية.

ومن دون أن تعتمد الإدارات العربية والتنظيمات السياسية سياسات نضالية تتفق و”الثوابت” تكون هذه مجرد طموحات بعيدة، أو مطروحات دعائية.

مقاومة الاحتلال هي جزء هام من تلك الثوابت،  ولكن ما هي هذه ؟ هل هي نداء لدعوة من يقاوم إلى فعل ذلك؟ أم هي طرف دعائي؟ أم هي طرح مترافق بفعل دعائي؟

كل ذلك لا يؤلف مقاومة حقيقة للاحتلال، بل بالعكس، يؤلف أداة ترسيخ ودعاية للاحتلال، ويشن حرب إبادة على “المتطرفين” (كما حدث فعلا)، ويشكو في نفس الوقت، من  أن أمنة معرض للخطر، استعداد لجولات  عدوان جديدة.

المقاومة ليست نداءً، وليست طرحا دعائيا، وإنما هي فعل موجود أو غير موجود. المقاومة الفيتنامية عند الاحتلال الفرنسي، ثم عند العدوان الأمريكي، لن تكن نداءً، ولا دعاية، وإنما كانت فعلا استمر سبع سنوات.

“الثوابت” تؤذى أصحابها، إذا كانت مجرد طموحات، أو مجرد طروحات دعائية، عدا ذلك ، لا تكون حينئذ “ثوابت” وإنما أي شيء آخر. ثمة مسافة كبيرة تفصل بين القول والفعل، وتمني أن تتحول الثوابت- الموروثات في المنطقة العربية من القول غير المسؤول إلى الفعل المسؤؤل، الذي يحول “الثوابت” إلى واقع على الأرض.

.