الأزمة الاقتصادية مختلفة هذه المرة

سامي عيد /

هذه هي المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي قد لا يجد العالم فيها طريقًا للخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية من خلال التعاون والتآزر، وذلك وفق ما خلُص إليه إدوارد ألدن، أستاذ في جامعة ويسترن واشنطن وأحد كبار الباحثين في مجلس العلاقات الخارجية، في مقاله المنشور في مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية.

يستهل الكاتب مقاله بالقول إن مرونة الحكومات في الاستجابة للأزمات الخطيرة من الأشياء الرائعة التي حافظ عليها الاقتصاد العالمي منذ الحرب العالمية الثانية. وأثبتت الاقتصادات الكبرى في العالم قدرتها على إيجاد سُبل للتعاون لمواجهة التحديات الخطيرة، مثل الركود التضخمي، وانهيار اتفاقية بريتون وودز في سبعينيات القرن الماضي، والأزمة المالية الآسيوية في التسعينيات، والأزمة المالية العالمية في القرن الحالي.

التعاون العالمي

إن هذه النجاحات المتتابعة قد تتحطم هذه المرة. وقد يكون التسلسل الحالي للمشكلات، مثل الحرب الأوكرانية، والتضخم ونقص الغذاء والطاقة، وفقاعات الأصول في أمريكا، وأزمات الديون في الدول النامية، وآثار تدابير الإغلاق المرتبطة بجائحة كوفيد-19، واختناقات سلاسل التوريد، الأزمة الأخطر على الإطلاق، لأسباب أقلها عدم قدرة البنوك المركزية على طباعة القمح والبنزين. لكن هناك بعض المؤشرات التي تؤكد ضرورة تنسيق استجابات جماعية للتصدي لهذه التحديات، إذ لم يكن التعاون العالمي حاليًّا أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، لكن يبدو أنه غير قابل للتطبيق.

كانت قدرة العالم على إدارة الأزمات وتجاوز الاضطرابات واستعادة مسار النمو العالمي تشير إلى أن عديدًا من الدول أصبحت غنية بصورة كافية لممارسة النفوذ والمطالبة بأخذ مصالحها بعين الاعتبار. وتسعى دول أخرى إلى تحقيق أهداف إقليمية أو أيديولوجية يرونها أكثر إلحاحًا من الأولويات الاقتصادية الضرورية. ونتيجةً لذلك، يكاد يكون تحقيق توافق في الآراء ضربًا من المستحيل. والمحصلة أنه بالتزامن مع هذه الأزمة، سيشهد العالم سلسلة من الاستجابات المتضاربة والجزئية بدلًا من إيجاد طريقة للاتحاد لمواجهة التحديات.

أهمية المبادرات

يؤكد الكاتب أن الحكومات في الماضي وجدت أساليب جديدة مبتكرة للتعاون عندما أثبتت المؤسسات التقليدية عدم براعتها. وكان هذا هو الحال في السبعينيات، عندما واجه العالم تحديات تكاد تكون قريبة مما نواجهه حاليًّا، إذ نتج من عدد من المشكلات، مثل التضخم الجامح والحروب في فيتنام وفي الشرق الأوسط واتحاد شركات النفط الذي أدَّى إلى ارتفاع أسعار الطاقة العالمية، وانهيار نظام العملة المدعومة بالذهب، وفضيحة ووترجيت السياسية في الولايات المتحدة، مرحلة من عدم الاستقرار العالمي وضعف النمو. ولم تكن الحكومات قادرة في البداية على التعاون لمواجهة تلك التحديات.

بيد أن وزراء مالية الاقتصادات الغربية الكبرى حاولوا بناء نظام نقدي جديد بعدما أنهى ريتشارد نيكسون، الرئيس الأمريكي آنذاك، قابلية تحويل الذهب إلى دولار في عام 1971. وأسفرت هذه الجهود عن عقد أول اجتماع قمة لمجموعة الدول الصناعية الست في فرنسا عام 1975، حيث اتفق قادة الدول الصناعية الكبرى على إيجاد طرق لإنقاذ اقتصاداتها المتعثرة. ولاحقًا عملت هذه المجموعة المعروفة بـ«مجموعة السبعة» (التي عرفت لاحقًا بـ«مجموعة الثمانية» بعد انضمام روسيا) على توفير هيكل تنسيقي للاقتصادات الغربية الكبرى حاليًّا.

وبعد أكثر من عقدين، خرجت مجموعة العشرين من رحم سلسلة من الأزمات المالية المزعزعة للاستقرار، مثل أزمة البيزو المكسيكي (1994-1995)، والأزمة المالية الآسيوية (1997-1998) وانهيار العملة الروسية عام 1998. وبحلول ذلك الوقت، برزت قوى اقتصادية جديدة مهمة، وهو ما أدركته مجموعة العشرين؛ إذ ضمت المجموعة الصين والهند والبرازيل وروسيا والمكسيك وإندونيسيا، من بين دول أخرى، مما وسَّع نادي الدول الغنية ليصبح أكثر تمثيلًا لاقتصاد التسعينيات.

وعلى غرار مجموعة السبع، بدأت مجموعة العشرين على أنها اجتماع عادي لوزراء المالية وترقَّت إلى قمة قادة سنوية خلال الأزمة المالية العالمية لعام 2008. وأصبحت المجموعة، في خضم الأزمة، النقطة المحورية للجهود العالمية لاستعادة النمو الاقتصادي، وأسهمت في انطلاق الاقتصاد العالمي من خلال تدابير تحفيزية منسقة، وعزَّزت اللوائح المالية ووسَّعت من قدرة الإقراض لدى صندوق النقد الدولي.

إن الغرض من هذه المنظمات غالبًا لا يتعلق بوضع مخططات كبرى للتعافي وبذل جهود أكثر للحيلولة دون أن تزداد الأمور سوءًا. وأحد الإنجازات الرئيسة لمجموعة العشرين خلال الأزمة المالية العالمية هو الحصول على تعهدات قوية من الدول الأعضاء لتجنب اتخاذ إجراءات حمائية، والتي كانت ستُفاقم التباطؤ العالمي. وعلى الرغم من تواضع هذه الإنجازات، فإنها أفضل بكثير من الدول التي تسعى لتحقيق أهداف معاكسة أو تقوِّض المصالح الاقتصادية لبعضها بعضًا.

تنسيق استجابة عالمية للأزمات

يلفت الكاتب إلى أنه إذا كانت منظمة التجارة العالمية مقيدة بتحقيق الإجماع وإذا كانت مجموعة السبع ومجموعة العشرين تفتقران إلى اتخاذ القرار، فما هي المجموعة التي ستهب للإنقاذ هذه المرة؟ إن مجرد طرح هذا السؤال يوضح مدى صعوبة تنسيق استجابة عالمية لمجموعة الأزمات الحالية. وتعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها بنشاط على إلحاق الضرر بالاقتصاد الروسي من خلال أوسع عقوبات فُرضت على الإطلاق، وترد روسيا بمنع شحنات الحبوب الأوكرانية عبر موانئها على البحر الأسود، وهذا يترك مجموعة العشرين منقسمة وعاجزة.

وفي قمة هذا العام، دعت إندونيسيا المستضيفة للقمة، روسيا لحضور اجتماع نوفمبر (تشرين الثاني) ودعت أوكرانيا للحضور وهي ليست عضوًا. وقد تكون مشاركة روسيا وحدها كافية لتحييد مجموعة العشرين، لكن من غير المرجح أيضًا أن يشارك الأعضاء الآخرون في أي إستراتيجية تقوم على أساس تعزيز الاقتصاد العالمي مع عزل روسيا. ورفضت الصين قطع العلاقات مع روسيا وأولت اهتمامًا بالغًا لزيادة الاكتفاء الذاتي لحماية اقتصادها من العقوبات التي تفرضها الاقتصادات الغربية على روسيا.

بر الأمان

إن الاقتصادات الغربية، من خلال مجموعة السبع وغيرها من المنتديات، كانت متحدة أكثر مما كانت عليه في السنوات الأخيرة، حتى لو استمرت الخلافات بشأن العقوبات ضد روسيا. وهذا لا يُعد إنجازًا بسيطًا، إذ لا تزال اقتصادات مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى تُمثل نحو نصف الاقتصاد العالمي.

كون حجم التحديات القائمة يتجاوز ما يمكن أن تواجهه دول مجموعة السبع بمفردها، إذ طورت مجموعة الدول السبع خطة قوية محتملة، بدعم من أكثر من 50 دولة، لمعالجة قضايا الأمن الغذائي عبر توسيع الدعم المالي والفني في مقابل موافقة الدول على التخلي عن حظر التصدير وغيرها من الإجراءات التي ستؤدي إلى الإضرار بأسواق الغذاء العالمية. لكن الهند، التي حظرت صادرات القمح الشهر الماضي، عرقلت تلك المبادرة حتى الآن.

وفي ختام مقاله، يؤكد الكاتب أنه على الرغم من أن هذه المبادرات إبداعية، فإنها لا تتلاءم مع الضرورة المُلِحَّة للحظة الراهنة. وكانت الحكومات الكبرى قادرة على تنحية ما بينها من خلافات للتوصل إلى استجابات قوية. لكن هذه المرة، لا يبدو أن هذا سيحدث. وقد يكون لعدم التعاون التأثير الأكثر استمرارية والأكثر إثارة للقلق للأزمات المتداخلة الحالية.

لقد شكَّلت الأزمات الحالية نقطة فاصلة لليقين في أنه، بغض النظر عن اختلافات الاقتصادات الكبرى، فإنها تتحد بشأن أهمية النمو الاقتصادي والاستقرار وتعمل معًا لتحقيق تلك الأهداف. لكن يبدو أنه لا يوجد ربان محنَّك يقود السفينة إلى بر الأمان هذه المرة.

.