اقتصاد الحرب .. أزمة أوروبية ـ روسية ـ عالمية

د. أمير حمد /

تداعيات الأزمة الاقتصادية التي خلّفتها الحرب الروسية على أوكرانيا، طرقت أبواب الدول الأوروبية كافةً، شعوباً وحكومات، من إيطاليا، حيث باتت بنوك الإطعام توسّع أعمالها يوماً بعد آخر، وصولاً إلى ألمانيا التي يُعدّ مسؤولوها خططاً لتقنين الغاز الطبيعي وإعادة تشغيل محطات توليد الطاقة بالفحم الحجري.

كيف تستطيع شركات القطاع العام المتعثّرة في دول الاتحاد الأوروبي تأمين ضمانات لدافعي الضرائب؟ كيف يمكن للمصانع وقطاعي المرافق والخدمات توفير الطاقة اللازمة للاستمرار في عملها؟ ماذا يخبئ الغدُ في جعبته من تطورات وأحداث؟!

هذه بعض من الأسئلة التي ما برحت تشغل بال المواطن، كما المسؤول، في منطقة اليورو التي انخفضت قيمة عملتها إلى أدنى مستوىً لها أمام الدولار الأمريكي، فيما سماء التكتّل ما فتئت تتلبّد بغيوم تضخّم اقتصادي داكن.

روسيا تتجنّب انهياراً اقتصادياً كاملاً

ولعلّ ما سلف لا يغدو كونه عناوين فرعية لمقال الصراع المحتمد بين بروكسل وبين موسكو التي تتخذ من النفط والغاز الطبيعي أداة تسعى لاستخدامها من أجل دفع التكتّل إلى العودة نحو جادة الركود من جديد بعدما تنفس الصعداء ببدء التعافي من تداعيات جائحة “كورونا”.

ولا شكّ أن روسيا تستفيد كثيراً من ارتفاع أسعار الطاقة، على اعتبار أنها مصدرٌ رئيس للنفط والغاز الطبيعي في العالم، كما أن بنكها المركزي وسنوات خبرته في التعايش مع العقوبات، ساهمت في استقرار الروبل وتحكّمت في معدلات التضخم رغم العزلة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.

وعلى الرغم من كل هذا، يقول الاقتصاديون إن روسيا التي تتجنّب انهياراً اقتصادياً كاملاً على المدى البعد، ستدفعُ بلا شك ثمناً باهظاً للحرب من خلال  الركود الاقتصادي الناجم عن وقف الاستثمارات والذي سيؤدي بالنتيجة إلى انخفاض الدخل الفردي والقومي في البلاد، حتى أن يعتقد جازماً أن الكرملين من خلال الحرب التي شنّها على أوكرانيا جلب لنفسه ركوداً طويل الأجل.

الاتحاد الأوروبي والتحديات الأبرز

أما على صعيد الاتحاد الأوروبي، فالتحديات الأبرز التي تواجهه على المدى المنظور، هي محاربة تضخم قياسي بلغت نسبته 8.6 بالمائة، وأيضاً اجتياز فصل الشتاء من دون حدوث نقص حاد في امدادات الطاقة لدى بلدان التكتّل التي تعتمد بشكل كبير على الغاز الطبيعي الروسي، هذا إضافة إلى التخفيف من آثار ارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف الغذاء.

في مدينة بايدنغ الألمانية، القريبة من ميونيخ، قامت مؤسسة “بريختسغادنر” وهي جمعية تعاونية كبيرة لمنتجات الألبان، بتخزين 200 ألف ليتر من الوقود لتضمن لنفسها الاستمرار في إنتاج الطاقة اللازمة لبسترة الحليف والحفاظ عليه بارداً في حالة انقطاع التيار الكهربائي أو إمدادات الغاز الطبيعي، وتعدّ تلك الخطوة، سياجَ حماية لـ1800 مزارع يملكون 50 ألف بقرة تنتج في مجموعها مليون لتر من الحليب يومياً.

ويقول المسؤول في  مؤسسة “بريختسغادنر”، برنارد بويننر: “في حال توقفت آلات تصنيع الألبان عن العمل، فحينها سيتعيّن على المزارعين التخلص من الحليب الذي تدّره أبقارهم”، علماً أن مصانع الألبان تحتاج للحفاظ على 20 ألف ليتر من الحليب بارداً لساعة واحدة فقط، كمية من الكهرباء تكفي لمنزل سكني مدة عام كامل.

وتحتوى مصانع الألبان أيضاً على عبوّات مخزنة لتأمين الإمدادات التي تحتاجها الأسواق، ويضيف بويننر: “لدينا الكثير من المواد المنتجة في المخازن، لكن هذا لن يستمر سوى لبضعة أسابيع”.

وتتجلى المشكلات الاقتصادية، حتى على مائدة الطعام، إذ تقدرُ مجموعات من المستهلكين أن الأسرة الإيطالية النموذجية، تنفق هذا العام مبالغ بأكثر من 681 يورو مقارنة مع العام الماضي، في إشارة إلى إرتفاع أسعار السلغ الغذائية.

بنك الطعام في لومباردي بإيطاليا تساهم فيه عشرات المؤسسات الخيرية التي تدير مطابخ الحساء وتقدم المواد الغذائية الأساسية، يقول مديره، داريو بوجيو مارزيت مدير: “نحن قلقون جداً بشأن الوضع الحالي والزيادة المضطّردة في عدد العائلات التي ندعمها”.

سعيٌ فرنسي ومناشدة ألمانية

وفيما يقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن حكومته تسعى إلى الحفاظ على الطاقة من خلال إطفاء الأنوار ليلاً واتخاذ تدابير مماثلة، فإن المسؤولين الألمان يناشدون مواطنيهم والشركات للعمل على توفير الطاقة وتخفيض استخدام التدفئة وتكييف الهواء في المباني العامة.

وحذر وزير الاقتصاد الألماني، روبرت هابيك، من أن بلاده قد تواجه نقصا في الغاز الطبيعي إذا ظلت الإمدادات الروسية منخفضة، كما عليه الحال  في الوقت الراهن، وسيتعين إغلاق بعض الصناعات مع حلول الشتاء.

وقال هابيك، لمجلة دير شبيغل: “سيتعين على الشركات وقف الإنتاج، وتسريح العمال، وستنهار سلاسل التوريد، وسيقع الناس في الديون لدفع فواتير التدفئة”، مضيفا أن ذلك جزء من استراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإحداث انقسام في أوروبا.

وفي الوقت الذي تعاني فيه أوروبا، من أزمة الطاقة، نجحت روسيا في تثبيت سعر صرف الروبل وسوق الأسهم والتضخم من خلال تدخل حكومي واسع النطاق، إذ إن النفط الروسي، وبرغم تراجع المستوردين الغربييين، يجد المزيد من المشترين في آسيا ، وإن كان يُباع لها بأسعار مخفضة.

صورة مضللة لواقع الحال

وبعد تعرضه لعقوبات بسبب الاستيلاء على منطقة القرم في أوكرانيا العام 2014، أنشأ الكرملين اقتصادًا محصناً من خلال إبقاء الديون منخفضة ودفع الشركات إلى الحصول على قطع الغيار والمواد الغذائية من داخل روسيا.

وعلى الرغم من إغلاق الشركات المملوكة لأجانب مثل “ايكيا” وتعثر روسيا في سداد ديونها الخارجية لأول مرة منذ أكثر من قرن، لا يوجد شعورٌ بوجود أزمة وشيكة في وسط مدينة موسكو.، حيث لا يزال الشباب، وخاصة الأثرياء منهم، يذهبون إلى المتاجر المحلية والمطاعم وأماكن الترفيه.

ويقول الاقتصاديون إن المحافظة على سعر صرف الروبل وتراجع معدّلات التضخم يقدم صورة مضللة لواقع الحال.

وكان سعر الروبل وصل الروبل إلى أدنى مستوياته على الإطلاق في الأسابيع الأولى للحرب في أوكرانيا، وانخفض بما يصل إلى 50 في المائة، إلى 150 مقابل الدولار الأمريكي، ثم بدأ يتعافى، ووصل مع نهاية شهر حزيران/يونيو الماضي إلى أعلى سعر صرف منذ العام 2015، ويرى محللون اقتصاديون قوة الروبل تعكس تماما ارتفاع الأسعار العالمية للنفط والغاز الطبيعي وأن العقوبات تعني أن روسيا تقوم بشراء واردات أقل.

وكتبت جانيس كلوج، الخبيرة في الاقتصاد الروسي في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، في تحليل حديث: إن معدل التضخم “فقد معناه جزئيًا،  هذا لأنه لا يأخذ في الحسبان اختفاء السلع الغربية، وربما يعكس انخفاض التضخم تراجع الطلب”.

ويجدر بالذكر أنه في العام 2020 تم توظيف نحو 2.8 مليون روسي في شركات أجنبية أو مختلطة الملكية، ووفقًا للباحث السياسي إيليا ماتفيف، فإنه إذا أخذنا الموردين بعين الاعتبار، فإن ما يصل إلى 5 ملايين وظيفة، أو 12 بالمائة من القوة العاملة، تعتمد على الاستثمار الأجنبي، وفق تأكيده.

وقد تجد الشركات الأجنبية ملاكاً روس، وقد تحول الحمائية ووفرة الوظائف الحكومية دون البطالة الجماعية، لكن كلوج ترى إن الاقتصاد سيكون أقل إنتاجية بكثير “مما يؤدي إلى انخفاض كبير في متوسط الدخل الحقيقي”، حسب قولها.

الاتحاد الأوروبي يتوقع ارتفاع التضخم

قال وزراء مالية منطقة اليورو يوم الاثنين إن محاربة التضخم هو الأولوية الحالية على الرغم من تراجع النمو في المنطقة، بينما أطلعتهم المفوضية الأوروبية على توقعات اقتصادية متدهورة.

وفي اجتماع دوري لما يعرف بمجموعة اليورو، قدمت الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي تحديثا لتوقعاتها الاقتصادية يظهر تباطؤا في النمو وزيادة في التضخم، حسبما قال فالديس دومبروفسكيس نائب رئيس المفوضية على هامش الاجتماع.

وقال دومبروفسكيس “يمكن للمرء أن يتوقع بعض التعديلات النزولية وربما المزيد للعام القادم”، مضيفا أن النمو ما زال قادرا على التعافي.

وقال “التضخم سيجري تعديله بالرفع” في إشارة إلى توقعات المفوضية التي من المنتظر نشرها يوم الخميس.

وحذر باولو جينتيلوني مفوض الشؤون الاقتصادية من تزايد المخاطر على الاقتصاد بينما قد تقطع روسيا إمدادات الغاز إلى أوروبا. وقال إن بروكسل قد تتبنى عددا من التدابير لتقليل ضغوط التضخم من واردات الغاز بما يشمل تحديد سقوف للأسعار، رغم أنه لم يتم اتخاذ أي قرار بشأن ذلك حتى الان.

واعتمد الاتحاد الأوروبي على روسيا فيما يصل إلى 40 بالمئة من احتياجاته من الغاز قبل الحرب، وتزيد النسبة إلى 55 بالمئة في حالة ألمانيا، مما أحدث فجوة كبيرة لسد سوق الغاز العالمي الذي يعاني نقصا بالفعل.

صندوق النقد الدولي: وقف إمدادات الغاز الروسي سيدفع بعض الدول الأوروبية نحو الركود

سيؤدي الوقف التام لإمدادات الغاز الروسي إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي لدول الاتحاد الأوروبي الأكثر ضعفاً، والدفع بها نحو الركود الاقتصادي، هذا ما حذّر منه تقرير نشره صندوق النقد الدولي.

ويرجّحُ صندوق النقد الدولي، ومقرّه واشنطن، أن تكون معاناة المجر وسلوفاكيا وجمهورية التشكيك، من جراء الوقف التام لإمدادات الغاز الروسي، أشد وطأة، بالمقارنة مع معاناة الأعضاء الآخرين في الاتحاد الأوروبي، لكنّه أكد أن إيطاليا وألمانيا والنمسا ستعاني هي أيضاً من تداعيات ذلك.

ويثير احتمال حدوث الوقف التام لإمدادات الغاز الروسي، مخاوف من آثار اقتصادية سلبية تتجلى في معدّلات التضخم والنمو والناتج القومي الإجمالي، ويقول مسؤولو صندوق النقد الدولي في التقرير الذي نُشر على الشبكة العنكبوتية: “فيما يسارع صنّاع السياسة إلى التحرك، فإنهم يفتقرون إلى خطط لإدارة (هذا التحرك) والتقليل من آثاره (السلبية)”.

ووفقاً للتقرير، فإن بلدان وسط وشرق أوروبا، الأكثر تضرراً، يتهددها خطر حدوث نقص في إمدادات الغاز قد تصل إلى 40 بالمائة، الأمر الذي سيقلص حجم الناتج المحلي الإجمالي لديها بنسبة قد تصل إلى 6 بالمائة.

ويرى التقرير أنه يمكن للدول الأوروبية التخفيف من الآثار السلبية لوقف إمدادات الغاز الروسي “من خلال تأمين مصادر بديلة لإمدادات الطاقة، والتخفيف من اختناقات البنية التحتية، وحثّ السكّان والمؤسسات والشركات على ترشيد استهلاك الطاقة، وتوسيع اتفاقيات التضامن بين البلدان لتشارك الغاز”.

ويقول صندوق النقد الدولي إن البنية التحتية للطاقة في أوروبا والإمدادات العالمية قد تكيفت، لغاية الآن، مع انخفاض في شحنات الغاز الروسي وصلت نسبته 60 بالمائة منذ شهر حزيران/يونيو من العام الماضي.

وأدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى قيام صندوق النقد الدولي بخفض توقعات نمو الاقتصاد العالمي إلى 3.6 بالمائة لهذا العام، وسيعلن عن مزيد من التخفيض في وقت لاحق من الشهر الماضي.

وكان إجمالي استهلاك الغاز انخفض في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري بنسبة 9 بالمائة مقارنة مع المدّة ذاتها في العام السابق، علماً أن أوروبا عوّضت نقص الغاز الروسي بإمدادات بديلة، لاسيما الغاز الطبيعي المسال، الذي يتم الحصول عليه من الأسواق العالمية.

ويقول صندوق النقد الدولي: “يمكن إدارة تخفيض يصل إلى حدود الـ70 بالمائة للغاز الروسي على المدى القصير من خلال الحصول على إمدادات بديلة في ظل انخفاض الطلب على النفط والغاز جراء ارتفاع الأسعار”، لكنّ التقرير يشير إلى أن الخيارات قد تكون أقل بكثير في حال تمّ فرض إغلاق كامل للغاز الروسي.

ويلفت صندوق النقد الدولي الانتباه إلى أنه في حال الوقف التام للغاز الروسي، فقد يشهد الاتحاد الأوروبي انخفاضاً في إجمالي الناتج القومي بنسبة قد تصل إلى حدود 3 بالمائة خلال الأشهر الـ 12 المقبلة، لكنّ بلداناً مثل السويد والدنمارك واليونان، قد تكون بمنأى عن ذلك، أما إيطاليا، وبالنظر إلى اعتمادها الكبير على الغاز في إنتاج الكهرباء، فقد يصل معدّل انخفاض ناتجها القومي إلى حدود الـ5 بالمائة.

ويجدر بالذكر أن شركة غازبروم الروسية أبلغت زبائنها في أوروبا أنها لا يمكنها ضمان إمدادات الغاز بسبب ظروف “استثنائية”، وهو ما يزيد المخاطر وسط إجراءات اقتصادية انتقامية بين موسكو والغرب بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، وذلك حسب رسالة مؤرخة في 14 تموز/يوليو.

يورو نيوز