ألمانيا تواجه خيارين

سالي إسماعيل

خلال الفترة التي شهدت استمرار تعافي اقتصاد ألمانيا بشكل جيد من الأزمة المالية العالمية، كان لدى صناع السياسة مبررات عقلانية للتقشف المالي.

وبرفض الحث الدائم من الدول الأعضاء في منطقة اليورو بشأن اعتماد التحفيز النقدي، كرس الألمان الالتزام الوطني لانضباط الموازنة والمعروف باسم “كبح الديون” الذي أقروه في عام 2009 والذي يحدد العجز الهيكلي الفيدرالي إلى 0.35 بالمائة نسبة للناتج المحلي الإجمالي

وتناقش رؤية تحليلية لأستاذ الاقتصاد “جيفري فرانكل” سياسة “الصفر الأسود” ” die schwarze null ” لتحقيق التوازن التام في موازنة ألمانيا وسط الحاجة الملحة للتوسع المالي.

ومن شأن مزيد من الإنفاق العام في ألمانيا أن يقلل من الفائض الكبير في الحساب الجاري للبلاد، ويدعم الطلب والذي سوف يساعد الدول الأعضاء الأخرى في منطقة اليورو وخاصةً في جنوب أوروبا، وذلك وفقاً لما يجادل به المدافعين عن التحفيز.

لكن مع انخفاض معدل البطالة والنمو الاقتصادي القوي نسبياً في ألمانيا، فإن صناع السياسة في برلين كانوا خائفين لأسباب مفهومة من أن تؤدي إجراءات كهذه لتسارع غير إيجابي لنمو الاقتصاد المحلي.

ولكن الآن، لم يعد النمو الاقتصادي المبالغ فيه مصدراً للقلق، حيث أن الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا تحول للانكماش خلال الربع الثاني من العام الحالي، ما يعكس ضعف القطاع الصناعي الحساس لتطورات التجارة.

وإذا جاءت أيضاً أرقام النمو في الربع الثالث بالسالب، فإن الاقتصاد سيكون داخل مرحلة ركود اقتصادي رسمياً.

ومن شأن النمو الأبطأ في الدخل أن يقلل الإيرادات الضريبية وبالتالي تقليص فائض الموازنة الألمانية، لكن بكل تأكيد يجب على السلطات ألا تتخذ خطوة من أجل الحفاظ على الفائض.

بل على النقيض، يجب على الحكومة أن تستجيب إلى أيّ تباطؤ من خلال زيادة الإنفاق أو خفض الضرائب، وعلى وجه التحديد يجب أن تنفق المزيد على صيانة وتحديث البنية التحتية ويمكنها خفض الضرائب على الرواتب.

وربما تحد القيود القانونية لكبح الديون من حجم التحفيز الممكن، لكن لا يزال هناك بعض المساحة.

وعلاوة على ذلك، يمكن إلغاء سياسة “الصفر الأسود” بالكامل في حالة الركود الاقتصادي، أو يمكن إعادة تفسيرها للسماح بالإنفاق الممول بالعجز الموجه للاستثمار، مع الاستمرار في موازنة النفقات الحالية.

ولا يُشكل الاستثمار في البنية التحتية “اقتراض مضر بالمستقبل” بالمعنى الاقتصادي الحقيقي.

وتعزز معدلات الفائدة السالبة – يمكن للحكومة حالياً الاقتراض لمدة 10 سنوات بمعدل فائدة يبلغ -0.5 بالمائة – ضرورة الاستثمار في المشاريع العامة مع تحقيق عوائد إيجابية.

وتشمل هذه المشاريع الطرق والجسور والسكك الحديدية وكذلك البنية التحتية مثل تكنولوجيا شبكات المحمول “5G”.

وكما قال “جون ماينارد كينز” ذات مرة: “الطفرة وليس الركود هي الوقت المناسب للتقشف”.

وإذا كانت الحكومة الألمانية تسمح للتقاليد الفلسفية المتمثلة في الليبرالية المنظمة بالبلاد بمنعها من إدارة عجز مالي في وقت الركود الاقتصادي، فإن قادتها سوف ينضمون إلى نادي السياسيين المؤيدين للدورة الاقتصادية بحماقة (أي هؤلاء الذين يدعمون زيادة الإنفاق وخفض الضرائب في أوقات النمو الاقتصادي القوي، بينما يخفضون الإنفاق ويرفعون الضرائب في وقت الصعوبات الاقتصادية).

ولن تكون الحكومة الألمانية وحيدة في هذا التوجه، فمن الناحية التاريخية تتبع العديد من الدول النامية المصدرة للسلع الأساسية سياسات مالية مؤيدة للدورات الاقتصادية خلال طفرة السلع، قبل أن تُجبر على عكس الاتجاه عندما تتراجع الأسعار.

وسجلت اليونان عجزاً كبيراً في الموازنة خلال سنوات النمو الاقتصادي في الفترة من عام 2003 وحتى عام 2008 ثم اضطرت إلى خفضه بشكل حاد في العقد الذي أعقب اندلاع أزمة منطقة اليورو في عام 2010.

ويتمتع الجمهوريين في الولايات المتحدة بسجل من السياسات السائرة في اتجاه الدورات الاقتصادية، حيث تعهدوا بالتحفيز المالي عندما يكون الاقتصاد آخذ في التوسع بالفعل، كما هو الوضع مع قانون خفض الضرائب في عام 2017 للرئيس دونالد ترامب وإعادة اكتشاف الحاجة لمكافحة العجز عندما يصل الركود الاقتصادي (كما حدث في عامي 1990 و2009).

ومع ذلك، تحركت دولاً أخرى على نحو لافت للنظر نحو سياسات مالية ذات إجراءات أكثر معاكسة للدورة الاقتصادية منذ مطلع الألفية.

ويمكن لألمانيا أن تتبع المسار الجديد لحكومة كوريا الجنوبية، فبعد 20 عاماً من الفوائض الإجمالية في الموازنة قامت السلطات هناك بزيادة الإنفاق بشكل كبير لمواجهة النمو الاقتصادي المتباطئ.

وبطبيعة الحال، يجب أن تسترشد السياسة المالية بأهداف أخرى، بالإضافة إلى الإجراءات المعاكسة للدورة الاقتصادية، أحدهم مسار الديون المستدامة طويل الآجل.

والاعتراف بأن التقشف المفرط لبعض الدول خلال فترة الركود الاقتصادي الأخيرة كان أمراً خاطئاً، لا يتطلب تبني موقفاً بأن الحكومة يمكنها زيادة الديون بدون حد أقصى كما يبدو أن بعض المراقبين يعتقدون ذلك الآن.

ويعتبر موقف الألمان المتعثر بشأن الديون والعجز يستحق المزيد من التعاطف أكثر مما يتلقاه حالياً.

وقبل تدشين عملة اليورو في عام 1999، كان المواطنون الألمان يشككون في التأكيدات المقدمة لهم في شكل معاهدة “ماستريخت” المالية وبند عدم الإنقاذ.

وكما يوضح الألمان، فإن أزمة اليورو الواقعة في عام 2010 ما كانت ستحدث لو أن اليونان – بعد انضمامها إلى اليورو – حافظت على الانضباط المالي بمقتضى ميثاق الاستقرار والنمو وتبعت قيادة ألمانيا في إصلاح أسواق العمل ومراقبة تكاليف وحدة العمل.

ومن ناحية أخرى، فإن تجنب المسار الذي يؤدي إلى زيادة نسبة الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي (كما في اليونان) لا يتطلب تجنب العجز في كل الأوقات، فهناك مناطق كثيرة بين هذين الاتجاهين المتطرفين (ديون كثيرة أو لا ديون على الإطلاق).

ويُعد الدمج بين الإنفاق والضرائب مسألة ضرورية في السياسة المالية، حيث يمكن للحكومات استخدام كلا الأمرين لمعالجة الأهداف البيئية على سبيل المثال.

وفي الواقع، يرى البعض التزام ألمانيا المتجدد بشأن تخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بحلول عام 2030 من أجل تحقيق أهداف اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015 باعتبارها كبش الفداء لـ “الصفر الأسود” ” die schwarze null”.

وفي 20 سبتمبر/أيلول الماضي، أعلنت الحكومة الألمانية إجراءات إنفاق بقيمة تصل إلى 54 مليار يورو (59.4 مليار دولار) في مسعى لخفض الانبعاثات.

.