أزمة الأحزاب المعتدلة في ألمانيا

عادل فهمي 

إنه زلزال هز الساحة السياسية الهادئة عادة في ألمانيا، بعد أن انتهت الانتخابات التي أجريت في ولاية تورنجن الشرقية إلى طريق مسدود. وظلت الأزمة بلا حل حتى فبراير هذا العام، عندما انتُـخِب مرشح ليبرالي لم يكن فوزه متوقعا رئيسا للحكومة بمساعدة الحزب اليميني المتطرف، البديل من أجل ألمانيا، والساسة المحليين من المنتمين إلى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي cdu. ويشكل تعاون حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي مع حزب البديل من أجل ألمانيا خرقا كبيرا للإجماع الألماني طوال فترة ما بعد الحرب الذي كان يستبعد تعاون الأحزاب الرئيسة مع اليمين المتطرف.

في وقت لاحق، استقال العديد من المسؤولين على مستوى الولايات، لكن الصدمة الأكبر كانت في العاشر من فبراير عندما استقالت على نحو مفاجئ أنغريت كرامب كارنباور، زعيمة الحزب وخليفة المستشارة أنجيلا ميركل. لقد سقطت  لأنها فشلت في وقف ساسة حزبها في تورنغن، لكنها سبق أن ارتكبت العديد من الأخطاء منذ أصبحت زعيمة للحزب في عام 2018 (بما في ذلك التعليق حول ضرورة فرض الرقابة على الإنترنت) حتى وهي وزيرة للدفاع (اقترحت حلا للصراع السوري التركي دون التشاور مع وزير الخارجية)، ونتيجة لهذا، انخفض مستوى شعبيتها في استطلاعات الرأي قبل فترة طويلة من التصويت في تورنغن.

الحزب يبحث عن زعيم

أعادت استقالة أنغريت كرامب كارنباور فتح باب البحث عن خليفة محتمل لميركل، وبين أولئك الذين يستشعرون أنهم لديهم فرصة حقيقية وزير الصحة “ينس شبان”، والسياسي الذي تحول إلى ممول “فريدريش ميرتز”، و”أرمين لاشيت” رئيس وزراء ولاية شمال الراين- وستفاليا، الولاية الأكثر اكتظاظا بالسكان في ألمانيا. ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية في عام 2021، سيحتاج الحزب إلى اختيار زعيم جديد بحلول نهاية هذا العام، وقد أوضحت أنغريت كرامب كارنباور أن هذا الشخص ينبغي له أن يكون أيضا مرشح الحزب الأول لمنصب المستشار.

لكن السؤال الأكثر إلحاحا الآن هو ما إذا كان ائتلاف ميركل الحاكم مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي spd قد ينهار، فتنزلق ألمانيا إلى أزمة سياسية خطيرة. الواقع أن التحالف بين حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب لاشتراكي الديمقراطي هو في أفضل الأحول “زواج مزعج وغير مريح”، وقد دعت إليه الضرورة بسبب الصعود القوي الذي سجله دعم حزب البديل في الانتخابات العامة في سبتمبر 2017. فإلى جانب الاتفاق على حزمة من سياسات المناخ في الخريف الماضي، لم تحقق الحكومة سوى بضعة نجاحات في طريق طويل.

علاوة على ذلك، تأتي أزمة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في أعقاب انهيار الحزب الاشتراكي الديمقراطي ذاته، فقد لقي أولاف شولتس، وزير المالية ونائب المستشارة، هزيمة قاسية في المحاولة التي بذلها لكي يصبح زعيما للحزب الاشتراكي الديمقراطي، ويبدو أن هذه النتيجة أنهت خطة شولتز الطموحة لإقامة اتحاد مصرفي في منطقة اليورو، وما زاد الطين بلة أن معدلات تأييد الحزب الاشتراكي هبطت إلى أدنى مستوياتها في فترة ما بعد الحرب (13%)، مما يجعل الحزب بلا فرصة تقريبا للتواجد في الحكومة المقبلة.

الخضر قادمون

من المرجح أن يحل حزب الـخُـضر، الذي عاد إلى الظهور بقوة وحظي بحشد ملحوظ في استطلاعات الرأي منذ انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو 2019، محل الحزب الاشتراكي الديمقراطي. فعلى مدار العام الماضي، كان الثنائي على رأس الحزب- أنالينا بيربوك وروبرت هابيك- محل جدال متزايد بوصفهما قائدين محتملين لألمانيا في المستقبل. ويُـعَد هابيك حاليا ثاني أكثر الساسة شعبية في ألمانيا، بعد ميركل.

إذا استمرت الأزمة الحالية في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وفشل الحزب في الحصول على أكبر حصة في الانتخابات العامة المقبلة، فمن المرجح أن يذهب حق تسمية المستشار إلى حزب الـخُـضر.

لا شك أن حكومة ائتلافية باللونين الأخضر والأسود حيث يكون حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي هو الشريك الأصغر ستكون سابقة أولى في السياسة الألمانية، كما ستكون سابقة غير مستساغة إلى حد كبير بالنسبة للحزب.

في ضوء هذا الاحتمال، حذرت شخصيات بارزة في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي من مشاحنات داخلية، وشددت على الحاجة إلى قيادة ثابتة وتعاون مستمر مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي حتى موعد انتخابات 2021.

وتراقب حكومات أوروبية أخرى هذه التطورات بقلق، إذ كانت الآمال كبيرة في أن تكون ألمانيا، التي ستتولى الرئاسة الدولية للاتحاد الأوروبي في النصف الثاني من عام 2020، النور الهادي للدول الأعضاء الأخرى، وخاصة فيما يتصل بتغير المناخ، والهجرة، ومستقبل العلاقات التجارية بين الكتلة والمملكة المتحدة، ولكن إذا كان القادة السياسيون في ألمانيا منشغلين بتعديلات مراكز القوة في الداخل، فمن المرجح أن يكرسوا قدرا ضئيلا للغاية من طاقاتهم للقضايا على مستوى الاتحاد الأوروبي.

أخيرا، لا تخلو الأزمة السياسية التي اندلعت في تورنغن من عواقب تؤثر على إرث ميركل، فمع اقتراب حكمها من نهايته في عام 2021، ظهرت بالفعل مخاوف من أن ألمانيا أصبحت دولة بلا دفة، تفتقر إلى الرؤية، ولم تعد تمثل صوت العقل داخل الاتحاد الأوروبي كما كانت من قبل.

مفترق طرق

إن ألمانيا تقف الآن عند مفترق طرق، فاقتصادها متخبط – لم يتجاوز نمو الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي 0.6- في المئة وهي في احتياج شديد إلى زخم جديد، الواقع أن ألمانيا، على الرغم من كل براعتها الهندسية وسمعتها في ما يتصل بالكفاءة، تراجعت في مجال التحول الرقمي والكهرباء، فضلا عن أهدافها المناخية، وسوف تواجه الحكومة القادمة مهمة دفع عجلة الاقتصاد وتسريع عملية التحول الرقمي وتطبيق الذكاء الاصطناعي، في حين تعمل أيضا على إبقاء ألمانيا على المسار الصحيح لتلبية هدفها المتمثل في تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050.

في ضوء الاضطرابات الحالية التي تجتاح الحزبين الحاكمين في ألمانيا، يصبح التوصل إلى حل سريع لأزمة القيادة في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي ضرورة أساسية، ذلك أن الشلل السياسي المطول قد يلحق الضرر الشديد بكل من ألمانيا وأوروبا.

.