هل نستطيع التقاط أنفاسنا في عصر التواصل الاجتماعي؟

متولي حمزة

لو نظرنا إلى الماضي، لوجدنا أن فكرة “السوشيال ميديا” وسائل التواصل الاجتماعي كانت يوماً محض تمنيات للتواكب مع تطورات المستقبل. الآن، وقد أصبحت هذه الوسائل واقعاً ملموساً، فإنها تقدم لنا جانبين متناقضين. الجانب الأول يتمثل في الفوائد الجمّة التي تحملها، سواء على المستوى المعرفي، الثقافي أو العلمي، حيث تعد بمثابة خزانة ثرية بالمعارف. أما الجانب الآخر، فهو يتعلق بتصرفات بعض الشركات والمؤسسات، بل والأفراد أنفسهم، التي تنتهك الخصوصية سواء عبر التجارة أو التسويق المضلل للمنتجات، مما يدفع المستهلكين للتفكير بجدية في اقتناء منتجات قد لا تكون ضرورية لهم.

تماماً كما يمكن للدواء أن يؤثر إيجاباً أو سلباً على من يتناوله بقصد الشفاء، تمتلك وسائل التواصل الاجتماعي تأثيراً مماثلاً. الاعتدال في تناول الأدوية يمكن أن يعزز الصحة، بينما الإفراط فيها قد يجلب الضرر. بالمثل، استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بحذر واعتدال يمكن أن يُثري حياتنا في عدة جوانب دون تدليس أو مبالغة.

مع ذلك، الاستخدام المفرط والهوس بنشر التفاصيل اليومية كالأماكن التي نرتادها، ما نأكل، ملابسنا، أو تفاصيل حياتنا الخاصة والمهنية على منصات التواصل، قد يعكس، للأسف، حالة من الرجعية والشعور بنقص في الذات بدلاً من التطور التكنولوجي. في الواقع، هذه الأفعال قد تنم عن عدم الامتنان للذات وحاجة للتأكيد من الآخرين بدلاً من تعزيز الذات من خلال تفاعلات معتدلة ومفيدة.

كما لا تعد وسائل التواصل الاجتماعي بمثابة منتدى للعلاج النفسي أو الاستشارات الأسرية، فإنها ليست المكان المناسب للتفصيل في المشكلات الشخصية أو العائلية. من الأفضل اعتبارها وسيلة للتعلم والتواصل الهادف فقط، وليس منبراً لعرض المشكلات أو تفاصيل الحياة الخاصة بشكل يثير القلق أو الإحراج.

النشر عن الإنجازات الشخصية أو تدوين الخواطر أو مشاركة التجارب بقصد تقديم النصح والإلهام للآخرين ليس بالأمر السلبي. بل على العكس، يمكن أن يكون مفيداً وبنّاءً. ومع ذلك، الإفراط في التباهي بالممتلكات الشخصية كالملابس والسيارات والمنازل، أو تفاصيل الحياة الزوجية والأسرية، قد يُظهر نقصاً في الذات ورغبةً في التأكيد عبر الانتباه الخارجي، مما ينتقص من قيمة هذه التفاعلات.

بالنسبة لبعض المؤثرين والمدونين الذين يستخدمون منصات السوشيال ميديا لتقديم المحتوى القيم كالنصائح والدروس والتجارب، فهذه تعد من الجوانب الإيجابية للسوشيال ميديا التي تعود بالنفع على المحتوى والمتابعين على حد سواء. هذا الاستخدام المدروس يمكن أن يحول الوسائل الاجتماعية إلى أدوات تعليمية وإلهامية مؤثرة.

لكن في عصر شديد الاستهلاك والسرعة “السيولة”، كما يصفه زيجمونت باومان عالم الاجتماع البولندي، في كتابه “الحياة السائلة”، نجد أنفسنا غارقين تحت وطأة موجة هائلة من المعلومات التي تجتاحنا عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هذه الفيضانات المعلوماتية لا تأتي بلا ثمن؛ إذ ربما تساهم في إصابتنا بالارتباك وصعوبة التمييز بين ما هو مفيد وما هو زائد عن الحاجة، ما يعزز الشعور بالغربة الفكرية والعاطفية حتى في قلب مجتمعاتنا الأكثر ترابطاً.

هذه الغربة المعلوماتية قد تزيد من تعقيدات تفكيرنا في الحياة اليومية، وتمدد الفجوة بين الفرد ومحيطه، مما يجعل التحدي الذي يواجهه الفرد في فهم واقعه والتفاعل معه أشد صعوبة.

بالإضافة لذلك، وسائل التواصل الاجتماعي، التي كان يُفترض بها أن تكون أرضاً للتواصل والتفاعل الاجتماعي، تحولت تدريجياً إلى أسواق تجارية حيث يقاس النجاح بعدد المتابعين والتأثير المرئي أكثر من المحتوى الفعلي. كل ساعة تقضيها على هذه المنصات لا تذهب سدى بل تتحول إلى ربح مادي لأصحاب المحتوى ومالكي المنصات، سواء كان ذلك عبر الإعلانات المباشرة أو الإغراءات التي تفرضها الخوارزميات المصممة لجذب انتباهك.

تستخدم هذه المنصات خوارزميات لعرض منتجات بطريقة تجعلك تشعر بأنك في حاجة إليها، معتقداً أن اقتناءها سيكمل نمط حياتك أو يحسن من ظروفك الشخصية. وتكمن الدهاء في استخدام مصطلحات مثل “لفترة محدودة”، التي تحث على التفاعل السريع والشراء بدافع الفومو (الخوف من تفويت الفرصة)، مما يعزز الشعور بالحاجة العاجلة والضرورية لامتلاك المنتج.

بلا شك، تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على العلاقات الاجتماعية قد يكون موازياً لتأثيرها على سلوكياتنا الاستهلاكية. بالرغم من الفرص التي تقدمها هذه المنصات للتواصل عبر الحدود والثقافات، فإنها أيضاً قد تسهم في تفكك التفاعل البشري والابتعاد عن اللقاءات الحقيقية والتفاعل المباشر بين الأفراد.

فالتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، بينما تقدم أشكالاً جديدة ومتقدمة من الاتصال، يمكن أن تؤدي إلى إهمال الأسس التي بنيت عليها علاقاتنا الاجتماعية تقليدياً مثل التزاور والتفاعل المباشر والعميق. يجب علينا أن نتذكر أن الهواتف والرسائل الإلكترونية، رغم فعاليتها وسرعتها، لا يمكن أن تحل محل الدفء والأصالة الموجودة في اللقاءات الوجهية.

لذا، العقلانية تقتضي التوازن بين استغلال التكنولوجيا لتعزيز حياتنا وبين الحفاظ على جوهر العلاقات الإنسانية التقليدية. الحياة السالمة تكمن في الحفاظ على هذا التوازن، بينما يمكن أن يعزز مواكبة التطورات التكنولوجية من نجاحنا وفعاليتنا في العصر الحديث. أما الاعتماد الكلي على التقنية في التفاعل الاجتماعي، فقد يقربنا أكثر من الرجعية ويُعمق الشعور بالتخلف عن الركب.

وفي عصر التقدم التكنولوجي الهائل، يُنظر للتوازن في استخدام التكنولوجيا كمهارة ضرورية، لذا، فالحكمة في التعامل مع التكنولوجيا بشكل عام تكمن في القدرة على التكيف والمواكبة دون أن نفقد بوصلتنا أو قيمنا الأساسية.

في زمن يُطغى فيه الاستهلاك والسرعة على معظم جوانب الحياة، تصبح الحاجة إلى التأمل والتمهل أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. الفلسفة الحديثة لعصر السرعة تشير إلى أن التدفق المستمر للمعلومات والمحفزات يمكن أن يقود إلى شكل من أشكال الفقر الروحي، حيث يغيب التوازن والسكينة عن حياتنا اليومية. لذا، من الضروري أن نتباطأ قليلاً ونعطي الأولوية لما هو حقاً مهم وأساسي في حياتنا، بدلاً من الانجراف وراء كل ما هو عاجل ولكن غير ضروري.

التفريق بين ما هو أهم وما هو مهم في إدارة الوقت والأولويات يصبح بمثابة فن يجب إتقانه، خاصة في عالم يمتلئ بالتحديات والإغراءات المستمرة التي تفرضها وسائل الإعلام الرقمي والتواصل الاجتماعي. قبل أن ننخرط في أي نشاط، يجب أن نحدد بوضوح ما هي الأولويات الأساسية: الأهم قبل المهم. يتوجب علينا أن نتذكر أن العالم الذي نعيش فيه قبل بدء مهامنا سيظل كما هو بعد إنجازها؛ الأخبار لن تتوقف، وشبكات التواصل الاجتماعي لن تزول.

لذلك، أرى أن التحرر من قيود الاستهلاك المفرط والسرعة المتزايدة ليس فقط خياراً اليوم، بل ضرورة للحفاظ على الصحة العقلية والروحية. إيجاد الهدوء والاتزان في حياتنا يمكن أن يمنحنا فرصة لاستعادة التواصل مع أنفسنا ومع العالم بطريقة أكثر عمقاً ومعنى.