لبنان يذهب إلى المجهول

عاطف عبد العظيم
إن الاحتجاجات واسعة النطاق في شوارع لبنان ضد الفساد والمحسوبية المتغلغلة في البلاد أدت إلى تفاقم التدهور وشلَّت الاقتصاد لأسابيع طويلة. ثم جاءت عملية الإغلاق التي استمرت سبعة أسابيع لاحتواء فيروس كورونا لتزيد من حدة الأزمة.
ولم تفعل إعادة فتح الاقتصاد شيئًا يُذكر لوقف ما يتحول بسرعة إلى انهيار اقتصادي كبير يهدد بزعزعة استقرار المنطقة المضطربة بالفعل. وكانت الاحتجاجات المتقطعة ضد الحكومة لفشلها في وقف السقوط المالي الحر بمثابة تذكير باحتمال اندلاع اضطرابات اجتماعية أكبر.
وعلقت صحيفة «الجارديان» البريطانية على الأوضاع المتردية في لبنان بسبب الانهيار الاقتصادي، الذي تتسارع وتيرته على نحو كارثي؛ إذ تتهاوى قيمة العملة المحلية (الليرة اللبنانيّة) يوميًا، فيما ارتفعت أسعار الأغذية الأساسية حتى أصبحت بعيدة عن متناول الكثيرين، وأُعيقت المحادثات التي كان بمقدورها إطلاق خطة الإنقاذ اللازمة بسبب ما وصفه النقاد بأنه إصرار من الطبقة الحاكمة على حماية النظام المتصدع.
تقول الصحيفة: «إن الانهيار الذي تشهده البلاد أدى إلى ارتفاع أسعار اللحوم والدجاج ثلاثة أضعاف، بالإضافة إلى ندرة الوقود والدقيق. وتتفاقم الأزمة من جراء بيع الإمدادات المدعومة حكوميًا إلى سوريا المجاورة بأسعار أعلى، مما سبب زيادة حادة في معدلات الجوع.
اللبنانيون يبيعون أثاثهم ليأكلوا
وعددت الصحيفة البريطانية مظاهر الانهيار الاقتصادي، ومنها إلغاء البروتين من قائمة الأغذية في ثكنات الجيش اللبناني، ولجوء المواطنين العاديين إلى بيع أثاثهم من أجل جمع ما يكفي من المال لشراء الطعام، فيما أغلقت سلسلة واسعة من متاجر البيع بالتجزئة أبوابها جماعيًا، في الوقت التي ظلت فيه جميع فنادق البلاد تقريبًا مغلقة.
وأضاف التقرير: «أما آمال انتعاش السياحة الصيفية فتلاشت من جراء جائحة كوفيد 19، وتزايد المخاوف الأمنية في سائر أنحاء البلاد.. ويبدو أن اليأس المسيطر على البلاد بسبب الأزمة هو ما دفع شخصين لبنانيين لإزهاق روحيهما بأيديهما».
ويقول قادة المجتمع المدني، واثنان من أعضاء الفريق الذي قاد محادثات مع صندوق النقد الدولي في محاولة للحصول على مليارات الدولارات من المساعدات العالمية: «إن شبكات المحسوبية التي تدير الحكومة وتُثري قادتها يُنظر إليها على أنها أكبر قيمة من حماية الدولة نفسها».
الحرب الأهلية .. نموذج للصراع القادم
ونقلت الصحيفة عن أحد السياسيين البارزين قوله «عندما تصل الأمور إلى ذروتها، فسيأتي وقت التسوية ودفع فاتورة الحساب… وإذا ما تحطم ما بُني منذ سنوات الحرب، سندخل في صراع آخر يمكن أن تكون حرب عام 1982 بالنسبة له بروفة».
المأزق الذي تعيشه البلاد والمثير لليأس محل تركيز شديد حول العالم، إذ دق صندوق النقد الدولي ناقوس الخطر بشأن المحادثات المتوقفة، والتي يمكن أن توفر ما يصل إلى 5 مليارات دولار من المساعدات، وتكون سببًا في تمهيد الطريق لتلقي التبرعات من فرنسا، والاتحاد الأوروبي، ودول الخليج وجميعهم كانوا من المانحين للبنان، لكنهم أصبحوا يخشون ضخ المزيد من الأموال في شرايين البلد.
ويلفت التقرير إلى أن الإصلاح الشامل لأنظمة المحسوبية، التي رسخت أقدام جنرالات الحرب في نهاية النزاع الذي استمر قرابة 15 عامًا، وحولت جميع مؤسسات الدولة إلى إقطاعيات، أصبح المطلب الرئيس لصندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي.
الدولة الفاشلة..
وفي هذا الصدد يقول دبلوماسي أوروبي بارز: «لن تتصور كيف كان الأمر صعبًا، لقد توسلنا إليهم ليتصرفوا كدولة طبيعية، لكنهم تصرفوا وكأنهم يبيعون لنا سجادًا». بينما أشار دبلوماسي كبير آخر، رفض الكشف عن اسمه، إلى «أن لبنان لم يعد يمتلك شيئًا جذابًا ذا قيمة، بل يبدو وكأنه دولة فاشلة».
يتابع كاتب التقرير: إن الطريق إلى التعافي تبدو واضحة أمام هؤلاء الذين خرجوا إلى الشوارع منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ طالبوا بإصلاح شامل لنظام متصلب، يراه كثيرون سببًا في إضعاف البلاد من خلال ترسيخ الفساد واسع الانتشار، وحرمانهم من فرص العمل – على أساس الجدارة – وتحويل المواطنين إلى رعايا خاضعين.
انهيار مدوٍّ للعملة
استمر الانهيار المدوي لليرة اللبنانية حتى وصل إلى 10 آلاف ليرة تقريبًا للدولار، مقارنة بسعر الصرف الثابت 1500 ليرة للدولار الواحد، الذي استقر على هذا الوضع منذ عام 1991.
ويكمن القلق المتنامي بشأن العملة في انهيارها المتواصل بلا توقف، لأنه لا يوجد ما يمكنه تجديد الثقة في الاقتصاد المتداعي. وطالما أن الدولة لا تؤدي واجبها، سيُبتلَع كل دولار يُوضع في النظام.
وتستشهد صحيفة «الجارديان» في نهاية تقريرها بما قاله لبناني من منطقة جونيه في شمال بيروت: «إن الحديث عن أحزاب معينة هنا خطأ؛ لأنه قد يورطك في مشاكل. لكنه حقًا وقت الحساب واسترداد الحقوق؛ إذ كيف نسمح لهؤلاء الذين يحتجزون البلاد رهينة أن يفروا بثرواتها، بل ينبغي لنا أن نضع حدًا لنظام المحسوبية، وكذلك الأحزاب التي تضع (مصلحتها) فوق رفاهية الدولة».
تعثر محاولات الإنقاذ
وتسعى الحكومة إلى الحصول على حزمة إنقاذ بقيمة 10 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، إلا أن الصحيفة نقلت عن مسؤولين مطلعين على الإجراءات قولهم إن المحادثات التي بدأت في فبراير (شباط) الماضي لم تتقدم بعد إلى ما هو أبعد من المراحل الأولية.
وأضافت أن الإصلاحات التي وعدت بها الحكومة لم تُنفذ، بدءًا من إصلاح هياكلها غير العملية، وحتى الدعم المُكلف الذي تقدمه للمستلزمات الأساسية مثل الوقود والقمح، بسبب عدم التوصل إلى اتفاق سياسي.
في غضون ذلك، توقفت الإيرادات الحكومية بسبب عمليات الإغلاق والتراجع الاقتصادي، مما اضطر البنك المركزي إلى طباعة ليرات لبنانية لتمويل النفقات الحكومية، بما في ذلك رواتب قطاع الخدمة المدنية المتضخم. لم يعد هناك أي قيمة ثابتة لليرة ولبنان يذهب إلى المجهول».
.