الصين النموذج الاقتصادي المبهر

صارت الصين قوة رائدة، وحرب تجارية تدور رحاها بينها وبين الولايات المتحدة. ودول الاتحاد الأوروبي تجد نفسها بين سندان الصين ومطرقة أميركا. فهل فعلاً انقلبت الآية وصارت دول الاتحاد الأوروبي مثل الدول الناشئة أم ثمة مبالغة في هذا القول؟ التقرير التالي يحمل بعض الإجابات

منال نحاس

تتصدر الصين صناعات الانتقال البيئي (الألواح الشمسية، والسيارات الكهربائية، والهيدروجين…) وهي في طليعة سباق الذكاء الاصطناعي، وصناعة السيارات، والصناعة الفضائية، وهي تبني محطة توليد طاقة نووية كل ثلاثة أشهر.

تناول الباحثان نيكولا ديفورك وأليس إيكمان هذه المسألة في التقرير التالي ونشرته “لوموند” الفرنسية، وسلط الضوء على نقاط قوة النموذج الصيني من جهة وشوائبه من جهة أخرى، وحمل الجواب عن سؤال يبدو أنه شاغل الاتحاد الأوروبي في هذه الآونة: هل في استطاعة أوروبا أن تسير على خطى الصين، وأن تتبنى مثالها القائم على تخطيط مركزي وسياسات تجارية عدوانية؟

وخلاصة الجواب عن السؤال الذي تؤيده، للوهلة الأولى، استثمارات الصين الضخمة، وقدرتها على التجديد في حقل التكنولوجيا، هو بالنفي. فالصين هي مصنع العالم، وحصة الصناعة من ناتجها الداخلي الصافي هو 40 في المئة، نظير 10 في المئة في فرنسا. وهذا الفرق لا يُتدارك. وتكلفة زيادة النسبة هذه من 10 إلى 12 في المئة تحتاج إلى نحو 12 عاماً، على احتساب مجلة “فرانس استراتيجي”. فالصينيون، على سبيل المثال، يبنون اليوم 55 مصنعاً كبيراً تنتج شبه الموصلات. ومن المستحيل على بلد آخر أن ينتج على هذه الوتيرة.

والحق أن نهج الصين فريد في بابه. فالبلد كله يعمل على مثال مصنع متكامل، تقوده خطة مركزية بالغة الفعالية. وسبق لأوروبا أن اختبرت، في العقدين السادس والسابع من القرن الـ20، صنفاً من التخطيط الاقتصادي، لكن هذا صنف لم يبق منه أثر وطواه الزمن.

وعليه، فالسير على خطى الصين مستحيل، ما عدا، ربما، في أمر واحد: على أوروبا معاملتهم على نحو معاملتهم لها في أعوام العقد 1990- 2000، حين سعوا جهدهم في اللحاق بها وسد الفجوة التكنولوجية الواسعة بينهم وبينها. فيومها ألزموا شركاتنا بالاقتصار على تملك أقل من نصف الأسهم في رأس المال المشترك، واشترطوا تنقيل شطر كبير من التكنولوجيا الغربية إلى شركاتهم وعمالهم، وفرضوا علينا حواجز جمركية عالية. وانقلبت الآية اليوم. فالصين، هي البلد المتطور، ودول الاتحاد الأوروبي البلدان الناشئة.

الهجوم الاقتصادي

أي إن الهجوم الصيني يصيبنا بالدوار. فهو لا يقتصر على الألواح الشمسية وعلى المركبات الكهربائية، ويتعداها إلى قطاعات المستقبل. ومعظم الشركات الأوروبية، في ميادين الصناعات الميكانيكية والروبوتات، والصيانة، واللوجيستيات، إلخ. تكتشف أن هناك صناعات منافسة نظيرها تنتج السلع نفسها التي تنتجها هي، بأسعار أدنى 30 أو 50 في المئة من أسعار منتجاتها. ومنذ ثلاثة أعوام، ارتفع جدار تنافسية فاصل. وكنا نظن، على خطأ، أن الميزة التفاضلية الصينية لا بد أن تتبدد مع زيادة الأجور ونشأة طبقة اجتماعية متوسطة، على مثال ما تشهده بولندا منذ أعوام.

لكن الحقيقة هي أن الفروق بين الأجور في أوروبا والأجور في الصين لا تزال حادة، رغم ارتفاعها المطرد في الـ20 عاماً الماضية. وربما أضعفت زيادة أجور اليد العاملة الصينية تنافسية بعض صناعاتها، وعلى الخصوص صناعة مثل النسيج، حصة القيمة المضافة في منتجاتها قليلة، إلا أن منتجاتها التكنولوجية تشهد تحسناً نوعياً ملحوظاً. وحين ترتفع الأجور في هذه الصناعات، تتولى مساعدات الدولة وإجراءات الدعم السخية تمكين الشركات من المحافظة على أسعار منخفضة نسبياً، ورغم الخسائر التي تتكبدها هذه الشركات وتعود الأسعار إلى الارتفاع، وتعوض خسائرها، بعدما تكون قضت على منافساتها ودمرتها، على ما حصل فعلاً في قطاع اللوائح الشمسية. وتدور الدائرة اليوم على قطاع السيارات، وتتهدد هذه السياسة ما بقي من الصناعة الأوروبية بالدمار. وعلينا، على الأرجح، حماية صناعتنا بواسطة الحواجز التجارية والرسوم. وقد يمنح هذا أوروبا فرصة تعويض تأخرها وخسارتها أو جزء منهما على أحسن تقدير. وعلى أوروبا الإقرار بالواقع، فليست سوقاً تعد من 1.4 مليار إنسان، وفوائضها التجارية قليلة، وعليها تمويل دولة الرعاية الاجتماعية، وهذا التمويل أولوية.

ولا يسع أوروبا الفكاك من إملاءات تاريخها الاقتصادي والاجتماعي. فالصين، رغم هرم سكانها واتساع شريحة المعمرين منهم، لم تقر للمتقاعدين من القوى العاملة ضماناً اجتماعياً للشيخوخة وللطبابة عموماً. وهذا هو السبب في ارتفاع معدلات التوفير في الصين، وفي عسر الحصول على مواعيد المعاينة الطبية، وزيادة عدد المستشفيات الخاصة والباهظة.

وفي هذا المضمار، ينتهج الصينيون نهجاً اجتماعياً مفرط الليبرالية، ويترتب على هذه الحال تقليص نفقات الاستهلاك (وزيادة التوفير، على ما تقدم) وتأخير سن التقاعد. وهذا بعيد جداً من نموذج الرعاية الاجتماعية الذي أنشأه الأوروبيون غداة الحرب العالمية الأولى، ثم أضافوا عليه إجراءات متممة غداة الحرب الثانية وفي أثناء “الـ30 المجيدة” 1945- 1975 (زيادة أسعار النفط في 1973 وأزمة الركود التي تبعتها).

صراع الابتكارات

ولا شك في أن قدرة بعض الشركات الصينية على الابتكار تبعث على الدهشة. وكانت بعض المجموعات الصناعية الأوروبية تردد، في العقد الأول من القرن الـ21، أن الشركات الصينية لن تستطيع في يوم من الأيام، ردم الهوة التكنولوجية التي تفصلها عن الشركات الأوروبية. ومال معظم الخبراء الأوروبيين إلى التهوين من خطر نقل التكنولوجيا الأوروبية إلى المنشآت الصناعية الصينية. وحين كان الصينيون يبنون مصنع طائرات “إيرباص” في تيانجين، كان الفرنسيون يطمئنون أنفسهم بالقول إنهم، في الأثناء، يصنعون في تولوز الفرنسية نموذجاً متقدماً على النموذج الصيني من الطائرة نفسها، وتعلل الأمر بأن الصين بلد تحكمه سلطة متشددة يحتكرها حزب واحد، الحزب الشيوعي الصيني، وهذا الحزب يخنق الحرية التي لا غنى للابتكار عنها.

ولكن كم كان خطأ فادحاً! فالشركات الصينية قدمت الدليل تلو الدليل على قدرتها على الابتكار. ولا شك في أنها قلدت النماذج الأوروبية كثيراً، وسرقت كثيراً، واتكأت على أجهزة استخبارات بالغة المهارة، وتوسلت باستراتيجية اقتصادية ذكية وهجومية. ولكنها، إلى ذلك كله، تبتكر وتجدد رغم النظام السياسي القائم، “رغم” وليس بفضل أو جراء النظام. وذلك لأن قطاع “الأبحاث” في الصين لا يزال مقيداً، وليس الحزب الشيوعي أكفأ مرجع يبت في هذا الأمر.

ولا يحول هذا، على الدوام، دون انتهاج سياسة صائبة، كما في حال شبه الموصلات. فالعقوبات الأميركية على شركة “هواوي”، شلت الشركة التي افتقرت، بين ليلة وضحاها، إلى المكونات والخبرات الأميركية. فبادرت الشركات الصينية، في رعاية الدولة وجراء مساعدات ضخمة، إلى معالجة المشكلة في مدة قياسية، وعوضت الحاجات التي كانت الواردات الأجنبية تلبيها. وهذه السياسة حلت المشكلة التي خلفها تقليص حجم الرقاقات الإلكترونية.

ولكن الحزب الشيوعي الصيني لا يدعو الباحثين والمهندسين في صفوفه، وأعدادهم إلى ارتفاع ومؤهلاتهم إلى تقدم، إلى أخذ زمام المبادرة واقتراح محاور بحث في حقول خبرتهم. فالحزب يتولى وحده القرار والمراقبة. ويسود الخوف مراكز الأبحاث والجامعات. ويحمل مزيج الخوف والتنافس على منح التمويل، الشركات والمختبرات على تعظيم الأرقام، وعلى تقليص أرقام أخرى وإغفال مشكلات تعترض العمل. أي إن المراتب والمراقبة السياسية لا تكل ولا تضعف. ورغم هذه الحال، ثمة فرص للابتكار والتجديد. أما نقل العثرات والإخفاقات إلى مراتب القرار العليا فأمر محفوف بالأخطار. وهذه الملاحظات لا تبدد سراً ينطوي عليه هذا البلد. فهو رغم تأطيره وضبطه ينجب رجال أعمال استثنائيين، فيبادر بعضهم إلى إنشاء شركات تكنولوجية عالمية وعملاقة. وحين تنهض هذه الشركات، وتنشط في مجالاتها، يوزع الحزب الشيوعي صورة فوتوغرافية لشي جينبينغ جنباً إلى جنب نخبة مديري شركات “ديبسيك”، و”يونتيري روبوتيكس”، وغيرهما.

كيف نجح الصينيون في بناء نظام اقتصادي يرعى المساكنة بين تخطيط صارم وبيئة أعمال تزخر بالمبادرة والابتكار؟

قد يبدو هذان الوجهان من النموذج الصيني عصيين على الجمع، إلا أنهما مترابطان بعنصر أساسي هو الاعتزاز القومي بالمشاركة في حملة السيطرة على العالم وخلع الولايات المتحدة عن المكانة الأولى. ويشبه نظام عمل الشركات الداخلي النظام الحزبي. وفي كل شركة صينية، كبيرة أم صغيرة خلية حزبية. ويتمم التنظيم الحزبي التنظيم الإنتاجي. وعندما أقر الحزب، بين أهداف الخطة الخمسية، تدارك التأخر في ميدان شبه الموصلات، مقارنة بتايبيه أو بالولايات المتحدة، قررت 55 مدينة إنشاء الواحدة مصنع شبه موصلات محلي. وأجاز الحزب للـ55 مدينة إنفاذ قرارها. وحين تجاوز الإنتاج الحد أمر بالتزامه.

“مايد إن تشاينا” نجاح جزئي

وتسهر الدولة الصينية على الاستفادة من الملكية الفكرية الغربية وتراقبها من قرب. والعمال الصينيون الذين يعملون في شركات التكنولوجيا بكاليفورنيا يتخلون عن العودة إلى بلدهم وزيارة أهلهم، لأنهم يعلمون أن الجهاز الحزبي الصيني ينتظرهم، ويفرض عليهم الإفصاح عن كل المعرفة التي حصلوها في مهجرهم الأميركي، لقاء السماح لهم بالسفر من جديد، وإلا حظر عليهم السفر.

والمنافسة بين الشركات الصينية على مخصصات الدعم شديدة. وعدد كبير من هذه الشركات ينتهي به الأمر إلى التلاشي والموت. والمخصصات تساعد الشركات القوية على البقاء والصمود. وحال قطعها، على الشركة أن تتدبر أمرها وتصارع في سبيل البقاء، عملاً بمنطق دارويني صارم لا تنكره القيادة الحزبية. ففي مضمار صناعة السيارات الصينية اليوم نحو 100 شركة تتنافس على السوق. ويرجح أن تصمد منها خمس.

هل تصبح الصين مثالا اقتصاديا

وعلى هذا، يصعب التكهن بمستقبل النموذج الصيني وجدارته، إن صح أن ثمة نموذجاً أو مثالاً اقتصادياً صينياً. فعلامات الوهن ظهرت عليه منذ بعض الوقت. وإحداها هي اقتصار النمو السنوي على خمسة في المئة، أقل كثيراً من الـ10 في المئة التي كان يتباهى بها الاقتصاد الصيني مطلع القرن الـ21. وأدت الأزمة العقارية إلى خسارة الطبقة الوسطى شطراً كبيراً من موفوراتها. وتكلفة التعليم، شأن الصحة، مرهقة. وعوائد المتقاعدين ضئيلة.

وفي ضوء هذه الوقائع، يراوح الاستهلاك الداخلي محله، ولا ينفك النمو الاقتصادي رهينة التصدير إلى الأسواق الخارجية. والعلاقة بالخارج هي ركن النموذج الصيني. وهو يتماسك، أولاً، بهذه العلاقة، وبالاعتزاز القومي الذي تبعثه هذه العلاقة، والمكانة العالمية التي تؤهل لها. وهذا على خلاف التصدعات الاجتماعية التي تسببها في المجتمع.

وبطالة الشباب، وتبلغ 28 في المئة في شريحة السن هذه، هي من هذه الصدوع الاجتماعية. والشبان الذين يقيمون مع أهلهم إلى سن متأخرة، ولا يتكلفون البحث عن عمل، ولا يسعون في تحسين تأهيلهم التعليمي أو المهني (ويسميهم الصينيون “شباب تانغ بينغ”، أي “الكسل الإرادي”)، هؤلاء هم ضحايا النموذج الصيني وسواقطه. وهم من ثمرات هاجس اللحاق بالولايات المتحدة مهما غلا الثمن، وحمل الصينيين على التخلي عن معايير أخلاقية واجتماعية ترتب على السباق الاقتصادي أعباء تبدو ثقيلة. وهذا أمر آخر يدعو الأوروبيين إلى التمسك بنموذجهم وحمايته من الهجوم الصيني.