التحديات الرئيسة التي تواجه الغرب في ظل بوادر انهيار النظام العالمي
أحمد الجمال
دعا هنري كسينجر، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق و ، الملقب بثعلب الدبلوماسية ، إلى إعادة تعريف مهام حلف الأطلسي “الناتو”؛ لمجابهة التحديات الجديدة، محذراً من تحرك دول، مثل روسيا والصين والهند، لملء الفراغ بالشرق الأوسط إذا تراجع دور الغرب.
روسيا.. عدو أم منافس؟
يُركِّز التحدي الروسي، في الوقت الراهن، على أوكرانيا وسوريا، لكنَّه يعكس عزلةً أعمق.
وقد وضعت روسيا، التي تمتد عبر 11 منطقةً زمنية من قارة أوروبا، على طول حدود المنطقة التي ينتشر فيها الإسلام وإلى المحيط الهادئ، تصوراً مستقلاً عن النظام العالمي. وفي ظل سعيها الدائم لتأمين حدودها الواسعة التي بها القليل من المُحدِّدات الطبيعية، طوَّرت روسيا ما يرقى لأن يكون تعريفاً للأمن المطلق، وهو الأمر الذي يعني انعدام الأمن المطلق لبعض جيرانها.
وفي الوقت نفسه، ساعدت مقاييس روسيا الجيو-استراتيجية، وتصوُّرها المبهم تقريباً عن العظمة، واستعداد شعبها لتحمُّل الصعاب، البلاد على مر القرون في الحفاظ على التوازن العالمي في وجه المشروعات الإمبراطورية التي تبنَّاها المغول، والسويديون، والفرنسيون، والألمان. وكانت نتيجة ذلك، بالنسبة لروسيا، أنَّها صارت متناقضة؛ إذ أصبحت ترغب في أن تكون مقبولةً من أوروبا، وأن تتفوق عليها في الوقت نفسه. ويساعد هذا الشعور الخاص بالهُوية في تفسير تصريح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي قال فيه إنَّ “زوال الاتحاد السوفييتي كان أكبر كارثة جيوسياسية في القرن”.
وغالباً ما توصف وجهة نظر بوتين عن السياسة الدولية بأنَّها تكرار للاستبدادية القومية الأوروبية التي ظهرت في الثلاثينات من القرن الماضي. وكي نكون دقيقين أكثر، هي إرث رؤية الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي عن العالم، التي ضرب لها مثلاً في خطابه الذي ألقاه في عام 1880 بمراسم تدشين نصب تذكاري للشاعر الروسي ألكسندر بوشكين. وكان الأديب الروسي ألكسندر سولجنيتسين قد تلقَّف، في أواخر القرن العشرين، دعوة دوستويفسكي الحماسية من أجل روحٍ جديدة للعظمة الروسية تعتمد على الخِصال الروحية للشخصية الروسية.
ومن المُنطَلَق نفسه، أدان بوتين ما وصفه بأنَّه جهدٌ غربي منذ 300 عامٍ لاحتواء روسيا. وخلال مؤتمر ميونخ للأمن الذي عُقد عام 2007، وفي غضبٍ مصبوغٍ بأفكار دوستويفسكي، اتهم بوتين الدول الغربية باستغلال المشكلات التي عانتها روسيا في أعقاب الحرب الباردة استغلالاً ظالماً؛ لعزلها وإدانتها.
كيف ينبغي للدول الغربية تطوير علاقاتها مع روسيا، وهي دولةٌ تُشكِّل عنصراً حيوياً في الأمن الأوروبي، ولكنَّها تتبنى، لأسبابٍ تاريخية وجغرافية، وجهة نظر مختلفة اختلافاً جوهرياً عمَّا يضمن التوصُّل إلى تسويةٍ مُرضية للطرفين في المناطق المجاورة لروسيا؟ هل يتمثل المسار الأفضل في الضغط على روسيا، ومعاقبتها إذا لزم الأمر، حتى ترضخ لقبول الآراء الغربية عن نظامها الداخلي والعالمي؟ أم هل بقيت هناك فرصة متاحة لعملية سياسية تتخلص من النفور المتبادل، أو تُخفف حدته على الأقل؛ سعياً للتوصل إلى مفهومٍ متفق عليه بشأن النظام العالمي؟
وهل يجري التعامل مع الحدود الروسية على أنَّها منطقةُ مواجهةٍ دائمة، أم يمكن تشكيلها لتصبح منطقة تعاون محتمل؟ وما معايير هذه العملية؟ هذه هي الأسئلة الخاصة بالنظام الأوروبي التي تحتاج إلى دراسة منهجية. ويحتاج كلا المفهومين إلى قدرةٍ دفاعية؛ لدرء رغبة روسيا في استخدام الضغط العسكري، حسب قول كسينجر.
هكذا ستغير الصين العالم
يشير المفكر الأميركي إلى أن الصين أطلقت “مبادرة الحزام والطريق” كمشروعٍ كبير ينطوي على تداعيات سياسية، واقتصادية، وثقافية، وأمنية، من بحر الصين الشرقي إلى القناة الإنكليزية.
ومن خلال سعيه لربط الصين بآسيا الوسطى وفي نهاية المطاف بأوروبا، سيؤدي طريق الحرير الجديد في الواقع إلى تحويل مركز الثقل العالمي من المحيط الأطلسي إلى أوراسيا. ويمر الطريق عبر تنوعٍ هائل من الثقافات الإنسانية، والأمم، والمعتقدات، والمؤسسات، والدول ذات السيادة. وتقع عليه ثقافاتٌ عظيمة أخرى، مثل روسيا، والهند، وإيران، وتركيا، وعند طرفه، تقع دول غرب أوروبا، ويتعين على كل دولةٍ منها أن تُقرر ما إذا كانت ستنضم إليه، أم تتعاون معه، أم تعارضه، وبأي صورة. إنَّ تعقيدات السياسة الدولية مُذهلة بقدر ما هي إجبارية.
ويشير إلى أن الصين دولة فريدة، وتتجاوز أبعاد الدولة التقليدية؛ فهي في الوقت نفسه حضارة قديمة، ودولة، وإمبراطورية، واقتصاد معولم. وبلا شك، ستسعى الصين إلى تكييف النظام الدولي بما يتفق مع تجربتها التاريخية، وقوتها المتزايدة، ورؤيتها الإستراتيجية.
ويسعى الرئيس الصيني، شي جين بينغ، لتحقيق ما يُسميه “الحلم الصيني”، الذي يعود إلى آخر مُصلحي أسرة تشينغ، بتحقيق هدف “المئويتين”. وحين تدخل جمهورية الصين الشعبية مئويتها الثانية في عام 2049، ستضاهي قوتها، وفقاً للتصوُّر الذي وضعه شي، قوة أي مجتمع آخر في العالم، إن لم تفقها، وسيكون نصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي مماثلاً لنظيره في البلدان المتقدمة بشكل كامل.
وفي هذه العملية، ستصبح الولايات المتحدة والصين أكبر بلدان العالم تأثيراً، على المستويين الاقتصادي والجيوسياسي، وستضطران إلى إدخال تعديلاتٍ غير مسبوقة على تفكيرهما التقليدي.
وتعتقد كلتا الدولتين نفسها استثنائية، وإن كان بطرقٍ تختلف جوهرياً: فأميركا ترى نشر قيمها ونظامها في البلدان الأخرى كجزءٍ من مهمتها؛ في حين تحرَّكت الصين تاريخياً على أساس فرضية أنَّ عظمة أدائها ستُحفِّز البلدان الأخرى للدخول في تراتبية هرمية تقوم على أساس الاحترام.
وبالنسبة لكلا المجتمعين –وباقي العالم – فإنَّ تطورهما المشترك هو خبرة مُميِّزة تُحدِّد هذه الفترة.
أي دورٍ سيكون لأوروبا في مثل هذا العالم؟
هل ستبقى جزءً من العالم الأطلسي أم ككيانٍ يعيد تعريف نفسه ويتكيف بشكلٍ مستقل مع التقلُّبات المحيطة به؟ أم ككيانٍ متمايز تشترك عناصره في نموذج تاريخي لتوازن القوى؟ وما هو نوع النظام الدولي الذي سيعتمد على مدى تزامن مفاهيم الأطلسية و”مبادرة الطريق والحزام”؟
الشرق الأوسط.. عدو عدوك ليس صديقك
في أوراسيا وعلى طول حدود روسيا، يواجه النظام الدولي تحدياً من تبعات الاندماج. أمَّا حول محيط الشرق الأوسط، فهو مُهدَّد بسبب اضطراب التحلُّل، حسب وزير الخارجية الأميركي الأسبق.
فقد أصبح النظام الذي ظهر بالشرق الأوسط نهاية الحرب العالمية الأولى، الآن، في حالةٍ من الفوضى. فقد توقَّفت 4 دول في المنطقة عن العمل كدول ذات سيادة؛ إذ أصبحت سوريا، والعراق، وليبيا، واليمن ساحات معارك للفصائل الساعية لفرض حكمها.
وعبر مناطق واسعة من العراق وسوريا، أعلن جيشٌ ديني متطرِّف أيديولوجياً، هو تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، نفسه عدواً عنيداً للحضارة الحديثة، ساعياً بعنف كي تحل إمبراطورية إسلامية واحدة تحكمها الشريعة محل النظام الدولي ذي الدول المُتعدِّدة.
في ظل هذه الظروف، يمكن اعتبار أنَّ القول التقليدي المأثور بأنَّ عدو عدوك هو صديقك لم يعد منطبقاً. ففي الشرق الأوسط المعاصر، قد يكون عدو عدوك هو أيضاً عدوك. ويؤثِّر الشرق الأوسط على العالم بتقلُّبات أيديولوجياته، تماماً بقدر ما يؤثر عليه بسبب ما يُتَّخذ من إجراءات بعينها.
الإمبراطورية الإيرانية
وقد تكون حرب العالم الخارجي مع “داعش” مثالاً على ذلك. فمعظم القوى بخِلاف “داعش” – وضمن ذلك إيران الشيعية والدول السُنّيّة الرائدة – تتفق على الحاجة لتدمير التنظيم. لكن أي كيان يُفتَرَض أن يرث أراضيه؟ أهو ائتلاف من السُنَّة؟ أم مجال نفوذٍ تهيمن عليه إيران؟ والإجابة عن هذا السؤال مُحيِّرة؛ لأنَّ روسيا ودول حلف شمال الأطلسي “الناتو” تدعم فصائل مُتعارِضة. وإذا ما سيطر الحرس الثوري الإيراني أو القوى الشيعية التي يدرِّبها ويشرف عليها، فإنَّ النتيجة قد تكون حزاماً من الأرض يصل من طهران إلى بيروت، وهو ما قد يكون إيذاناً بظهور إمبراطورية إيرانية مُتطرِّفة.
وتعقَّدت الحسابات الغربية بالتحوُّلات الناشئة في تركيا، التي كانت يوماً فاعلاً مؤثراً رئيساً معتدلاً، من دولةٍ علمانية إلى صيغةٍ أيديولوجية إسلامية.
ويأتي دعم تركيا للقضية السُنّيّة، وهي التي تؤثر في الوقت نفسه على أوروبا بتحكُّمها في تدفُّق المهاجرين من الشرق الأوسط وتتسبَّب في إحباط واشنطن عبر حركة النفط والبضائع الأخرى على حدودها الجنوبية، جنباً إلى جنبٍ مع جهودها الرامية إلى إضعاف الحكم الذاتي للأكراد، الذين دعم الغرب معظم فصائلهم حتى الآن.
هذا ما ستفعله روسيا والصين والهند
وسيؤثر الدور الجديد لروسيا على نوع النظام الذي سيظهر. فهل هدفها هو المساعدة في هزيمة “داعش” ومنع ظهور الكيانات المماثلة؟ أم أنَّ ما يحركها هو الحنين إلى بحثها التاريخي عن الهيمنة الاستراتيجية؟ إذا كان هدفها هو الأول، فإنَّ سياسةً تعاونية من جانب الغرب مع روسيا قد تكون بنَّاءة. أمَّا إذا كان هدفها هو الأمر الثاني، فإنَّ تكرار أنماط الحرب الباردة أمرٌ مُرجَّح. وسيكون توجُّه روسيا بشأن السيطرة على أراضي “داعش” الحالية، الموضَّحة آنفاً، اختباراً رئيساً في هذا الشأن.
والخيار نفسه يواجه الغرب، فعليه أن يُقرِّر ما هي النتيجة التي تتوافق مع نظامٍ عالمي آخذ في التشكُّل والكيفية التي يُعرِّفه بها.
ولا يمكن للغرب الالتزام بخيارٍ يستند إلى التصنيفات الدينية بشكلٍ مُجرَّد؛ لأنَّ تلك التصنيفات نفسها منقسِمة. ويجب أن يكون دعمه هادفاً للاستقرار ومواجهاً لأي تصنيفٍ يُهدِّد الاستقرار. ويجب أن تشمل الحسابات المدى الطويل وألا يكون مُحرِّكها هو التكتيكات اللحظية.
وإذا بقي الغرب منخرطاً دون خطة جيو-استراتيجية، فإنَّ الفوضى ستتنامى. وإذا ما انسحب صورياً أو واقعياً -كما كانت الرغبة على مدار العقد الماضي– فإنَّ القوى الكبرى، مثل الصين والهند، التي لا يمكنها تحمُّل الفوضى على طول حدودها أو الاضطرابات داخلها، ستحل تدريجياً، برفقة روسيا، محل الغرب. وستجري الإطاحة بنمط السياسة الدولية الذي ساد في القرون الأخيرة.
إلى أين يتَّجه حلف الأطلسي؟
إن الناتو واضح بشأن التزاماته الدفاعية أكثر مما هو واضح بشأن دوره في المساهمة بالنظام الدولي.
وكان الناتو، الذي اعتُبِر رادعاً لاتحادٍ سوفييتي يُهدِّد بزيادة ترسانته من الأسلحة النووية لتضاف إلى تفوقه العددي في القوات البرية، يُمثِّل التزاماً قانونياً وتعبيراً عن الردع المشترك لدول الغرب الحرة من أجل تعزيز قيمها.
وجاء التقليد المتمثِّل بتولّي الولايات المتحدة قيادة الحلف نتيجةً لكون ترسانتها النووية هي الموازن الحقيقي للقوة العسكرية السوفييتية. ومع مرور العقود، تحوَّل الحلف على نحوٍ متزايد إلى ضمانةٍ أميركية أحادية بدلاً من كونه مفهوماً استراتيجياً مُتَّفَقاً عليه ويرتبط بالعالم المتطور.
ويشيد كسينجر، على مدار مقاله، بالرؤية والشخصية السياسية لرئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر.
وأوضح أن تصور تاتشر للحلف الأطلسي مختلف تماماً عن الحقائق الحالية. فقد وصفته باعتباره مؤلَّفاً في جوهره من “أميركا كقوةٍ مهيمنة محاطة بحلفاء يتبعون في العموم قيادتها”. لكن لم يعد هذا هو الحال تماماً؛ إذ لا تقود الولايات المتحدة بالشكل الذي رأته تاتشر، وأصبحت عقلية الكثير من الأوروبيين تصبو نحو استكشاف البدائل.
إنَّ حقائق السكان، والموارد، والتكنولوجيا، ورأس المال تضمن دوراً عالمياً حاسِماً لأميركا المُشارِكة من كثب، وأوروبا المنخرطة عسكرياً. لكنَّ ذلك لن يحدث دون مفهومٍ استراتيجي وسياسي مُتَّفَق عليه.
وفي عالم اليوم سريع التغيُّر، على الناتو أن يبدأ في عملية إعادة نظر دائمة لأهدافه وقدراته. ويجب أن يدفع التحوُّل في الهياكل التي تُشكِّل النظام العالمي المعاصر الناتو وأعضاءه إلى أن يسألوا أنفسهم: ما التغييرات التي سيسعى لمنعها بخِلاف السيطرة على أقاليم أعضائه، وبأي وسائل؟ وما الأهداف السياسية، وما الوسائل التي هو على استعدادٍ لحشدها؟
يقول كسينجر في ختام مقاله: “اسمحوا لي بأن أختم بتكرار التحدي الذي ذكرته مارغريت تاتشر في خطاب فندلي والذي ألقته قبل عقدين من الزمن:
إذ قالت ثاتشر: “ما الذي يجب عمله؟ أعتقد أنَّ المطلوب الآن هو مبادرة أطلسية جديدة ومبتكرة. ويجب أن يكون هدفها هو إعادة تعريف الأطلسية في ضوء التحديات التي ذكرتها. وهناك لحظات نادرة يكون فيها التاريخ مفتوحاً ويتغيّر مساره بوسائل كتلك. وقد نكون في لحظةٍ كتلك الآن”.