أوروبا والناتو .. وعودة ترامب
د. أمير حمد
تخشى أوروبا عودة ترامب إلى البيت الأبيض، في ظل اعتماد القارة العجوز على الحماية الأمريكية تحت مظلة حلف الناتو، فهل تعزز إنفاقها العسكري للتصدي لأي هجوم روسي محتمل؟
كان دونالد ترامب، الرئيس السابق والمرشح الأوفر حظاً للفوز بترشيح حزبه الجمهوري لانتخابات 2024، قد صرح الشهر الماضي، بأن الولايات المتحدة “لن تحمي” أي دولة أوروبية “لا تدفع” حصتها في حلف الناتو من أي “عدوان روسي” قد تتعرض له تلك الدولة.
ما قصة الإنفاق العسكري في أوروبا؟
أثارت تصريحات ترامب “صدمة” لدى الدول الأوروبية، لكنها في الواقع ليست المرة الأولى التي يعبر فيها الرئيس الأمريكي السابق عن هذا الموقف. فقد هدد ترامب بالفعل من الانسحاب من الحلف العسكري الغربي ما لم تلتزم الدول الأوروبية بدفع حصتها من ميزانية الناتو.
وينص ميثاق الحلف العسكري الغربي على أن تخصص كل دولة عضو فيه 2% من ناتجها المحلي الإجمالي سنوياً للإنفاق العسكري، لكن منذ انتهاء الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفييتي السابق، تراجع الإنفاق العسكري الأوروبي بشكل لافت.
ورصد تقرير لصحيفة The Wall Street Journal كيف أن أوروبا عززت بالفعل، منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل عامين، من إنفاقها العسكري، لكن يظل هذا التعزيز غير كافٍ على ما يبدو.
إذ اتجهت أوروبا نحو تعزيز إنفاقها العسكري مع احتدام الحرب في مناطق قريبة وتصاعد التهديد المُتمثّل في احتمالية انسحاب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي (الناتو) في حال عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ويعمل مصنعو الأسلحة على مدار الساعة وتُبنى مصانع جديدة لتلبية الطلب.
ومع ذلك، لا يزال أمام أوروبا طريق طويل لتقطعه، وخيارات صعبة يتعيّن عليها اتخاذها، إذا كانت تهدف إلى تقليل اعتمادها على الدعم العسكري الأمريكي ومواجهة أي عدوان روسي محتمل.
وتتهم الدول الغربية، وبخاصة واشنطن ولندن، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه يريد اجتياح دول مثل لاتفيا وإستونيا وغيرها من دول شرق أوروبا، كما فعل في أوكرانيا، لكن موسكو تنفي تلك الادعاءات وتتهم الغرب بأنه يسعى لتقويض أمنها القومي.
تهديدات ترامب لدول أعضاء في الناتو
وعلى الرغم من أنَّ دونالد ترامب لم ينل بعد ترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024، إلا أنه أعاد بالفعل تشكيل الحوار الأمريكي بشأن التحالفات الأمنية الدولية.
يتضح هذا التحول في خطابات حملة ترامب الانتخابية التي تنتقد الأعضاء الأوروبيين في حلف الناتو، وفي وقوف الجمهوريين بمجلس النواب ضد إقرار مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا وإسرائيل، وفي التصريحات الانتقادية الصادرة عن عدد متزايد من السياسيين الجمهوريين.
ويتصدر ترامب حالياً السباق الجمهوري للفوز بترشيح الحزب ولا تنافسه سوى نيكي هيلي، لكن الفارق بينهما ضخم لصالح الرئيس السابق وتمارس عليها الضغوط للانسحاب وإعلان دعمها له، شأنها شأن باقي مرشحي الحزب الذين انسحبوا بالفعل.
لكن حدة الخلاف الدائر في الولايات المتحدة حول الموقف الأمريكي تجاه أوكرانيا وأوروبا وحلف الناتو تتعارض مع الاقتناع السائد في أوروبا بأهمية تعزيز الاستعداد الدفاعي، بسبب ما يصفه الغرب بأنه عدوانية متزايدة من جانب روسيا.
وقال أمين عام حلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، يوم 14 فبراير/شباط، إنَّ أعضاء الناتو الأوروبيين سينفقون مجتمعين هذا العام 2% من ناتجهم المحلي الإجمالي على جيوشهم، وذلك لأول مرة منذ عقود.
قال ستولتنبرغ قبل أحد الاجتماعات الدورية لوزراء دفاع حلف الناتو في مقر الحلف: “نحرز تقدماً حقيقياً. يضاعف الحلفاء الأوروبيون حجم الإنفاق العسكري”.
ومع ذلك، قد لا تكون هذه الزيادة كافية للتأثير على المنتقدين الأمريكيين الذين يقولون إنَّها قليلة للغاية وجاءت متأخرة للغاية بعد عقود من استثمارات منخفضة في القدرات العسكرية أدت إلى إضعاف الجيوش الأوروبية.
لكن هدف الإنفاق العسكري الأوروبي قد يندرج ضمن نقاط الجدال. وفقاً لـ”معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية” الفرنسي (IRIS)، ما يقرب من ثلثي الأموال، التي تعهدت الحكومات الأوروبية بتخصيصها للمعدات العسكرية منذ شن روسيا هجومها واسع النطاق على أوكرانيا قبل عامين، توجهت إلى مقاولين دفاعيين أمريكيين.
ويُشدّد أوروبيون وبعض الساسة الأمريكيين على هذه النقطة للتأكيد على أنَّ إعادة تسليح القارة الأوروبية يعود بالنفع على المنتجين الأمريكيين. يشتد طلب الحكومات الأوروبية على المقاتلات الأمريكية طراز” F-35″ وقاذفات صواريخ “هيمارس” ومنظومة الدفاع الجوي الصاروخي “باتريوت”، وهو ما يثير ذعر مقاولي الدفاع الأوروبيين وبعض المسؤولين الحكوميين.
الضغوط الأمريكية على أوروبا
ضغطت الإدارات الأمريكية طوال سنوات على الحلفاء الأوروبيين في حلف الناتو لزيادة الإنفاق الدفاعي. حذّر روبرت غيتس، وزير الدفاع في عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، في خطاب ألقاه في بروكسل عام 2011 من “احتمالية حقيقية لمستقبل قاتم للتحالف عبر الأطلسي”.
زاد ترامب من الضغوط الأمريكية في وقتٍ لاحق عندما هدّد في اجتماع لحلف الناتو عام 2018 بإمكانية انسحاب الولايات المتحدة من الحلف إذا لم يرفع الأوروبيون حجم الإنفاق الدفاعي المُخصّص للناتو. قال بعض المستشارين السابقين إنَّه ناقش معهم بالفعل مثل هذه الخطوة.
وفي خطابات حملته الانتخابية الأخيرة، ادّعى ترامب الفضل في زيادة أوروبا إنفاقها العسكري وقال إنَّه لن يحمي الحلفاء الذين لا يوفون بالتزاماتهم المالية المقررة للحلف إذا أعيد انتخابه رئيساً. بدلاً من ذلك، أعلن إنَّه سيشجع روسيا على “فعل ما تريده” لأي دولة عضو في الناتو لا تدفع ما يكفي لميزانية الحلف.
هاجم ستولتنبرغ والرئيس جو بايدن والعديد من الزعماء الأوروبيين تهديد ترامب باعتباره يتعارض مع المصالح الأمريكية، ويُعرّض القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها للخطر.
لكن في الوقت نفسه، كانت إدارة بايدن قد ضغطت على الدول الأوروبية لزيادة حجم إنفاقها الدفاعي. يستجيب الأوروبيون ببطء ويخططون لاتخاذ المزيد من الإجراءات بشأن زيادة الإنفاق العسكري، وذلك بدافع الخوف من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكثر من تهديدات ترامب.
وارتفع الإنتاج الأوروبي من قذائف المدفعية وغيرها من الأسلحة الحيوية في معركة أوكرانيا بنسبة 40% منذ الغزو الروسي قبل عامين. وتعمل بعض المصانع الآن دون توقف. لا يزال الإنتاج غير كافٍ لتلبية الاحتياجات الأوكرانية، لكن المسؤولين يعملون على تضييق الفجوة.
مصانع جديدة للأسلحة في أوروبا
وضع المستشار الألماني، أولاف شولتس، ورئيسة الوزراء الدنمارك، ميته فريدريكسن، الشهر الماضي، حجر الأساس لمصنع جديد لإنتاج الذخيرة، وهو واحد من العديد من المنشآت الجديدة أو المُوسّعة المقرر تشييدها في جميع أنحاء القارة.
وافقت وكالة المشتريات التابعة لحلف الناتو الشهر الماضي على دعم ألمانيا وإسبانيا وهولندا ورومانيا لشراء ما يصل إلى 1000 صاروخ “باتريوت”، في صفقة تبلغ قيمتها حوالي 5.6 مليار دولار، ليبدأ تصنيعها في مصنع أوروبي جديد تبنيه شركة “RTX” الأمريكية المُصنّعة للأسلحة وشركة “MBDA” الأوروبية المُصنّعة للصواريخ.
والتقى شولتس الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البولندي، دونالد تاسك، من أجل الدفع بخطط تعزيز الإنتاج الدفاعي لأوروبا، بما يشمل إصدار الكتلة الأوروبية سندات دين لتمويل التوسع، كما فعلت لتمويل تعافيها الاقتصادي من تداعيات جائحة كوفيد-19. لكن أوروبا تواجه الآن متاعب إضافية تفرضها تهديدات من جانب بوتين وترامب.
سيكون الحفاظ على استدامة زيادات الإنفاق العسكري أمراً صعباً بالنسبة لأوروبا، لأنَّه قد يأتي على حساب الإنفاق على الرعاية الاجتماعية والرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية.
ويقول مسؤولون دفاعيون إنَّه من غير المرجح استمرار هذا الطلب لسنوات، في حين ثمة حاجة إلى عملية أكثر جذرية لإعادة بناء الجيوش الأوروبية وستكون مُكلّفة للغاية. تكافح القوات المسلحة الأوروبية أيضاً من أجل تحقيق التعاون في مجال التخطيط وعمليات الانتشار العسكري.
حاول المخططون منذ فترة طويلة، دون جدوى، الحد من النزعة القومية والمنافسة بين منتجي الأسلحة، والتي تتسبب الآن في حدوث الهدر في إنتاج بعض المعدات والنقص في إنتاج بعض المعدات الحيوية الأخرى. على سبيل المثال، انتهى الحال بالمروحية العسكرية الأوروبية الصنع طراز “NH90″، والتي وُصفت ذات يوم على أنَّها مشروع نموذجي عابر للقارات، بتصنيع نسخ مختلفة منها، وهو ما أدى إلى تقويض التطابق.
في السياق ذاته، قالت وكالة الدفاع الأوروبية التابعة للاتحاد الأوروبي في تقريرها السنوي العام الماضي إنَّ أعضائها يفضلون بشدة شراء معدات جاهزة للاستخدام بدلاً من تطوير أنظمة جديدة، سواء معاً أو كل دولة على حدة. تأتي معظم المشتريات من خارج الاتحاد الأوروبي، وهو ما يقوض قدرة الكتلة الأوروبية على بناء الصناعة الدفاعية الخاصة بها.
قالت الوكالة في التقرير إنَّ هذا الاتجاه “يتعزز بفعل السياق الأمني الحالي”، في إشارة إلى الحرب الروسية في أوكرانيا.
وفقاً لـ”معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية” الفرنسي (IRIS)، شكَّلت المشتريات الدفاعية من خارج الاتحاد الأوروبي 78% من الأموال التي التزم بها أعضاء تلك الكتلة الأوروبية على مدى العامين الماضيين، استحوذت الولايات المتحدة على 63% منها.
.