أزمة فنزويلا .. والعالم
صلاح حمدان
بعد انتخاباتٍ، قاطعتها المعارضة اليمينية المدعومة امريكياً، أدّى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، في 10 كانون الثاني/ يناير 2019، اليمين الدستورية لفترة رئاسية ثانية تدوم ست سنوات. وردّت المعارضة التي تسيطر على الجمعية الوطنية (البرلمان) بتنصيب رئيس البرلمان، خوان غوايدو، كرئيس مؤقت للبلاد، والذي أدّى اليمين الدستورية في 23 كانون الثاني/ يناير 2019، بعد أن اتهم مادورو باغتصاب السلطة. وتعهّد غوايدو بالسماح بدخول المعونات الإنسانية إلى فنزويلا التي تشهد أوضاعًا اقتصادية ومعيشية صعبة، وبالدعوة إلى انتخاباتٍ رئاسيةٍ جديدة.
وقد عَدَّ مادورو ما جرى محاولةً انقلابيةً، تقف وراءها الولايات المتحدة الأميركية. وسرعان ما اتخذت دول عدّة مواقف من الأزمة، لا تستند إلى قضايا الشعب الفنزويلي التي يدور حولها الصراع، بل بناءً على اعتبارات دولية جيوستراتيجية.
واشنطن تقف خلف الصراع
ما إن أعلن غوايدو نفسه رئيسًا، حتى سارعت واشنطن إلى الاعتراف بشرعيته. ويعد الاعتراف بنائب برلماني معارض، لا يحكم البلاد ولا يملك أي قوة فعلية، رئيسًا شرعيًّا، خطوة جارفة غير مألوفة في العلاقات بين الدول. وهو ما عزّز الشكوك بوقوف واشنطن وراء محاولات تقويض سلطة مادورو، بالتعاون مع حكومات اليمين في كولومبيا والبرازيل. وقد اتخذت واشنطن على الأثر سلسلة إجراءاتٍ لتحقيق ذلك، أهمها:
فرض عقوبات على صادرات فنزويلا النفطية إلى الولايات المتحدة، في محاولة لمنع نظام مادورو من الحصول على سيولةٍ نقدية، فضلًا عن العقوبات المصرفية التي كانت أصلًا مفروضة على فنزويلا قبل الأزمة. وتأمل واشنطن أن يدفع انحسار السيولة النقدية في فنزويلا إلى انفضاض الجيش والأمن اللذيْن لا يزالان على ولائهما لمادورو. وبمقتضى العقوبات الأميركية الجديدة، تعمل إدارة دونالد ترامب مع غوايدو للاستحواذ على شركة “سيتجو” النفطية، والتي تعمل في الولايات المتحدة، وتتبع شركة النفط الوطنية الفنزويلية، كما طلبت إدارة ترامب من كل الزبائن الأميركيين لدى شركة النفط الوطنية الفنزويلية تحويل الدفعات النقدية مقابل النفط الفنزويلي إلى حساباتٍ خاصةٍ في الولايات المتحدة تخضع لسيطرة غوايدو.
تشديد الخناق على نظام مادورو عبر تجميد أصول شركة النفط الوطنية الفنزويلية، والاستحواذ على الأصول الحكومية الفنزويلية في الولايات المتحدة، وحيثما أمكن عالميًّا ونقل السيطرة عليها إلى غوايدو. وبناء عليه، اتخذ وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في 29 كانون الثاني/ يناير 2019، قرارًا بالسيطرة على الأصول الفنزويلية وممتلكاتها المؤمّنة في بنوكٍ أميركية، بما في ذلك البنك المركزي في نيويورك. كما نجحت واشنطن في الضغط على مصرف إنكلترا المركزي، لحرمان مادورو من الوصول إلى الذهب الذي تحتفظ به فنزويلا في لندن، بقيمة 1.2 مليار دولار.
الحشد دبلوماسيًّا ضد نظام مادورو؛ إذ دعت الولايات المتحدة إلى عقد جلسةٍ خاصةٍ في مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة حول فنزويلا، في 26 كانون الثاني/ يناير 2019، شارك فيها وزير الخارجية الأميركي. وخلال الجلسة، وضع بومبيو الأعضاء أمام خيارين “إما أن تقفوا مع قوى الحرية أو أن تكونوا متواطئين مع مادورو والفوضى التي ينشرها”. كما دعا “جميع أعضاء مجلس الأمن لدعم التحوّل الديمقراطي في فنزويلا ودور الرئيس المؤقت غوايدو فيه”، غير أن روسيا والصين، إضافةً إلى جنوب أفريقيا وغينيا الاستوائية، عرقلت مسعى الولايات المتحدة لاستصدار بيانٍ من المجلس، يعبر عن تأييده الكامل للجمعية الوطنية الفنزويلية باعتبارها “المؤسسة الوحيدة المنتخبة ديمقراطيًا” في فنزويلا. وتعترف اليوم أغلبية الدول الغربية، بما فيها كندا والاتحاد الأوروبي، بغوايدو رئيسًا، وكذلك حال أغلب الدول الأميركية اللاتينية، في حين ترفض الاعتراف به روسيا والصين، ودول أخرى، مثل تركيا وإيران، وبعض الدول الأميركية الجنوبية، كالمكسيك وكوبا وبوليفيا.
التلميح بغزو عسكري؛ إذ كرّر المسؤولون الأميركيون مرّات، بدءًا بالرئيس ترامب، بأن واشنطن قد تلجأ إلى استخدام القوة لإرغام مادورو على التنازل عن الحكم، أو إذا ما أقدم على فض المظاهرات الشعبية المعارضة له بالقوة. وقد زادت التكهنات باحتمال تنفيذ عمل عسكري أميركي ضد مادورو، بعدما ظهر مستشار الأمن القومي، جون بولتون، في مؤتمر صحفي في أواخر كانون الثاني/ يناير 2019، وفي يده كرّاسة ملاحظات مكتوب عليها “5000 جندي إلى كولومبيا”. رفضت وزارة الدفاع الأميركية استبعاد العمل العسكري، على الرغم من إصرار المسؤولين الأميركيين على أنه لا توجد خطط لتدخل عسكري وشيك حاليًّا، مع بقاء كل الخيارات مطروحة.
الموقف الروسي – الصيني
ما إن تصاعدت حدة الأزمة السياسية في فنزويلا، مع تمسّك طرفي النزاع بمواقفهما، حتى تحولت إلى صراع جيوسياسي دولي، تنخرط فيه مباشرة الولايات المتحدة، من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، ولكل طرفٍ حلفاؤه على ساحة أميركا اللاتينية ودوليًّا. وتحظى فنزويلا بأهميةٍ كبرى لدى كل هذه الأطراف؛ فهي، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تُعدّ ضمن ساحة خلفية لا تسمح لأحدٍ بالاقتراب منها. ووفق “مبدأ مونرو”، نسبة إلى الرئيس جيمس مونرو، الصادر عام 1823، لن تسمح واشنطن لأي قوةٍ بإنشاء مناطق نفوذ في القارّتين الأميركيتين، الشمالية والجنوبية. وقد تدخلت واشنطن مرارًا في شؤون جيرانها في أميركا اللاتينية، لتقويض أي نظام حكمٍ يعارض سياستها في القارة، ديمقراطيًّا كان أم ديكتاتوريًّا.
وقد تضاعفت أهمية أميركا اللاتينية بالنسبة إلى الولايات المتحدة خلال سنوات الحرب الباردة، خصوصا بعد سقوط كوبا بيد الثوار الماركسيين الموالين للاتحاد السوفياتي عام 1959. وفي عام 1962، كادت مواجهة نووية أميركية – سوفياتية أن تندلع، بسبب محاولة الاتحاد السوفياتي نصب صواريخ نووية متوسطة المدى في كوبا، تغطّي معظم الأراضي الأميركية، وذلك ردًّا على مشاريع أميركية مماثلة في أوروبا، تهدّد الاتحاد السوفياتي. وقد احتفظت قوى اليسار بمواقع لها في القارّة، ومنها فنزويلا، على الرغم من سقوط الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات. فقد تمكّن الرئيس الراحل، هوغو تشافيز، من الوصول إلى السلطة في انتخابات عام 1998. ومنذ ذلك الحين، لم تتوقف محاولات واشنطن تغيير نظام الحكم في فنزويلا، بما في ذلك الانقلاب العسكري.
وفضلًا عن أن فنزويلا دولة مصدّرة للنفط، تسعى واشنطن إلى منع روسيا والصين من امتلاك نفوذ لهما فيها، خصوصًا أن فنزويلا طوّرت، على مدى العقدين الماضيين، علاقات سياسية واقتصادية واستثمارية وعسكرية قوية مع الدولتين المنافستين للولايات المتحدة. وقد حطت قاذفتان حربيتان روسيتان قادرتان على حمل أسلحةٍ نوويةٍ في فنزويلا أواخر عام 2018، في رسالةٍ رأت فيها الولايات المتحدة تحديًّا روسيًّا لها.
بالنسبة إلى موسكو، تكتسي فنزويلا أهمية خاصة؛ نظرًا إلى موقعها المهم على مقربةٍ من الولايات المتحدة، غير أن أهمية فنزويلا في الحسابات الروسية لا تقف عند هذا الحد؛ إذ ثمّة حسابات إستراتيجية واقتصادية أكبر. فمن الناحية الإستراتيجية، ترى موسكو أن الثورات الشعبية، كما في أوكرانيا وسورية وفنزويلا، ما هي إلا أدوات أميركية لزعزعة استقرار الأنظمة التي ليست على توافقٍ معها. ورأت موسكو أن الثورات الشعبية شكلت رأس حربةٍ لتمدّد الديمقراطية، التي تعتبرها نموذجًا غربيًّا في الحكم، إلى مناطق نفوذها المباشرة، كما في المحاولات التي جرت في جورجيا وقرغيزيا وأوكرانيا. وعلاوة على ذلك، تملك روسيا محطّةً إلكترونية في القاعدة البحرية في أنطونيو دياز في لا أوركيلا، وهي جزيرةٌ تقع شمال العاصمة الفنزويلية كاراكاس. وترى موسكو في هذا الوجود العسكري ورقةً للضغط على واشنطن بشأن أوكرانيا.
اقتصاديًّا، تملك شركة روسنفت النفطية الروسية المملوكة للدولة حصة تساوي 50 في المئة تقريبًا في شركة سيتجو النفطية، التابعة لشركة النفط الوطنية الفنزويلية. وثمّة تقديرات تفيد بأن موسكو قدمت قروضًا وضمانات ائتمانية لفنزويلا، فضلًا عن أسلحةٍ ومعداتٍ عسكرية، بقيمة تراوح بين سبعة عشر وخمسة وعشرين مليار دولار، وهي مضمونة بعقود يتم تسديدها عبر دفعات مربوطة بالنفط.
أما الصين، فتشتري حوالى 240 ألف برميل نفط يوميًّا من فنزويلا، وقد ضخّت فيها نحو 65 مليار دولار منذ عام 2008. كما ساعدت فنزويلا على إنشاء مصانع لتصنيع سيارات (شيري)، وهواتف (هواوي)، فضلًا عن بناء سكك الحديد وتحديث الموانئ الفنزويلية والبنى التحتية. وعلى المستوى العسكري، باعت الصين كمياتٍ كبيرةً من المعدّات إلى فنزويلا، بما في ذلك ناقلات جند مدرعة، إضافةً إلى رادارات دفاع جوي ومقاتلات وطائرات نقل عسكرية، وغير ذلك من المعدّات والأسلحة. وللصين كذلك منشأة لتتبع الأقمار الصناعية في قاعدة كابيتان مانويل ريوس الجوية في غواريكو. وكما في حال روسيا، أغلب الاستثمارات والصفقات الصينية – الفنزويلية هي على شكل قروضٍ مضمونة بعقود موازية، تسدّد من عوائد النفط. وثمّة شكوك حول موثوقية تسديد فنزويلا تلك القروض، إذا تمّت إطاحة مادورو، على الرغم من عرض غوايدو التفاوض معهما لضمان حقوقهما.
موقف الجيش
اشتد التنافس الدولي على فنزويلا. لكن يبدو واضحًا أن قرار حسم الصراع في هذا البلد سيكون داخليًّا؛ فقد أصبحت المؤسسة العسكرية العامل الرئيس في حسم الصراع بين القوى المدنية الحاكمة والمعارضة، الذي وصل إلى نقطة اللاعودة واللاحسم. فكلاهما يرفض التراجع، ولا يقدر على حسم المعركة لصالحه في الوقت ذاته. وبينما يحاول غوايدو استمالة الجيش، يبدو أن مادورو ما زال يتمتع حتى الآن بدعم المؤسسة العسكرية والأمنية والقضاء، باستثناء انشقاقات بسيطة لا يُعتدّ بها. في حين يبدو الشارع منقسمًا؛ نتيجة سنواتٍ من الأوضاع المعيشية الصعبة التي تسببت فيها سياسات مادورو الاقتصادية الفاشلة، إضافة إلى العقوبات المفروضة عليها. لقد بدأ عهد حكم شافيز بالعمل لصالح الفئات الفقيرة اقتصاديًّا، وتمكينها وتعزيز مشاركتها السياسية. وما زالت هذه قواعد مادورو الاجتماعية، ولكنه خسر الطبقات الوسطى، وجزءًا كبيرًا من الإنتلجنسيا. ومع تدهور مستوى المعيشة، وتفشي الفساد وأعمال البلطجة، خسر قطاعات من الطبقات الفقيرة أيضًا.
ويُنظر إلى الجيش في فنزويلا باعتباره صاحب السلطة الفعلية في البلاد؛ إذ يبلغ تعداده أكثر من نصف مليون رجل، وهو يمسك بأكثر المؤسسات الحكومية، وله نصيبٌ وافرٌ من الوزارات التي يحتل أهمها ضباط متقاعدون، مثل وزارة رئاسة الجمهورية، ووزارات الدفاع، والداخلية، والعدل، والزراعة، والكهرباء، والنفط والغاز. لذلك ظلّ الجيش مواليًّا للسلطة، على الرغم من تردّي الوضع الاقتصادي في فنزويلا. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن من يسيطر على الجيش اليوم هم الضباط الذين جاء بهم تشافيز بعد عام 1999، والذين وقفوا معه ضد محاولة الانقلاب عليه عام 2002. وأضحوا اليوم ذوي رتبٍ عالية، وأي تغيير حاليًّا سيعني إحالة هؤلاء الضباط على التقاعد، وربما إلى محاكماتٍ بقضايا متعلقة بمقتل متظاهرين. لكن هذا كله قد يتغير، إذا بدأت العقوبات الأميركية تؤثّر في المؤسسة العسكرية.
وماذا بعد ؟ تتوقف نتيجة الصراع في فنزويلا على عوامل عدة؛ أهمها موازين القوى في الداخل، والتي سيكون للجيش دور حاسم في تحديدها، كما سيكون للعوامل الخارجية (الأميركي تحديدًا) دور مهمّ في ضوء سعي إدارة الرئيس ترامب إلى إنهاء النظام المعارض لمصالحها في فنزويلا. وتستثمر واشنطن في صعود قوى اليمين في عموم أميركا اللاتينية للإجهاز على ما تبقى من معارضة لها فيها. كما تستثمر في ضعف التأييد الدولي لنظام مادورو؛ إذ لا يُتوقع أن تتجاوز روسيا والصين حدود الدعم السياسي والدبلوماسي لنظامه، في وقتٍ سيجد فيه مادورو صعوبةً في الحفاظ على تماسك مؤسستي الجيش والأمن حوله، فضلًا عن توفير الحد الأدنى.