السودان .. ومسارات الذهب

سمير الحيدري

تعيش ألمانيا على وقع جدل سياسي وإعلامي متصاعد بسبب ظهور عناصر من قوات “الدعم السريع” وهم يحملون أسلحة ألمانية الصنع، مما أثار مخاوف من تورط مباشر أو غير مباشر لبرلين في الصراع الدموي الدائر في السودان.

يأتي هذا التطور في وقت لا يزال العالم تحت الصدمة إزاء المجازر التي شهدتها مدينة الفاشر بعد أن سيطرت عليها قوات “الدعم” بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي، وهو ما زاد من حدّة السجالات في شأن سقوط أسلحة ألمانية وأوروبية عموماً بيد هذه القوات.

ونشرت صحيفة “ريبورت ماينز” المحلية تقريراً تضمن صوراً لقيادي بقوات “الدعم السريع” يحمل بندقية من نوع G36C وهي من صنع شركة ألمانية نفت لاحقاً تصديرها مثل هذه الأسلحة إلى السودان، في خطوة تُسلّط الضوء على معضلة استمرار تدفق السلاح على السودان على رغم الحظر الأممي المفروض على البلاد في هذا الشأن.

ويأتي هذا التطور في وقت لا يزال العالم تحت الصدمة إزاء المجازر التي شهدتها مدينة الفاشر بعد أن سيطرت عليها قوات “الدعم” بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي، وهو ما زاد من حدّة السجالات في شأن سقوط أسلحة ألمانية وأوروبية عموماً بيد هذه القوات.

جدل سياسي

يأتي ذلك في وقت تستمر الاشتباكات العنيفة في السودان بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات “الدعم السريع”، وهي اشتباكات تركزت في الساعات الماضية في محور أم صميمة غرب الأبيض بولاية شمال كردفان باستخدام الأسلحة الثقيلة والمتوسطة.

وفي الوقت الذي يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إلى إحداث اختراق دبلوماسي في مسار الأزمة بطلب من وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، باتت ألمانيا في قلب عاصفة سياسية بسبب الأسلحة التي سقطت بيد “الدعم السريع”.

وطالب المتحدث باسم السياسة الخارجية في الكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي أديس أحمدوفيتش، الحكومة الألمانية باتباع “نهج مختلف” إزاء صادرات الأسلحة، وذلك في معرض تعليقه على التقارير التي تتحدث عن تمكن “الدعم السريع” من هذه الأسلحة.

وقال أحمدوفيتش إنه “إذا اتضح أن جهات أجنبية تستخدم أسلحة ألمانية، فيجب إعادة النظر في هذا الأمر”.

وفي ردها على أسئلة من وسائل إعلام محلية حول كيفية وصول أسلحة ألمانية إلى السودان، قالت الوزارة الاتحادية للشؤون الاقتصادية والطاقة في برلين، إنه “لم يتم التوصل بعد إلى نتائج مستقلة في شأن ذلك”.

تأثير في الحرب

ولم تعلن السلطات الألمانية بعد عن فتح تحقيق في شأن كيفية وصول الأسلحة إلى السودان، لكن الخشية تتصاعد من أن يتم الزج بها في أتون هذه الحرب المدمرة.

وقال الباحث السياسي والمدير الأسبق لإدارة الإعلام برئاسة الجمهورية السودانية أُبي عز الدين عوض، إن “ألمانيا غير متورطة بشكل مباشر في الحرب بالسودان، والسلاح الألماني والأميركي والصيني يدخل عبر تشاد وميناء بوساسو في أرض الصومال وليبيا وأفريقيا الوسطى وكينيا، ومعلوم للجميع هوية الدولة الآسيوية التي يأتي السلاح عبرها إلى المنافذ الأفريقية”.

واستدرك عوض في تصريح خاص “لكن بالنسبة إلى السلاح الألماني، نجد أنه من قائمة الدول المستخدمة له هناك دولتان مواليتان لمليشيات (الدعم السريع) هما شرق ليبيا وأوكرانيا، ونوعية هذا السلاح الألماني لا تؤثر كثيراً في سير المعارك، بقدر ما يؤثر الدعم الذي توفره بعض الدول الأخرى عبر التجسس بالأقمار الصناعية وأنظمة التشويش على الاتصالات العسكرية”.

وشدد على أن “ألمانيا قامت بتبرئة نفسها من البيع المباشر لـ(الدعم السريع)، بخلاف فرنسا التي لم تستجب لتساؤلات واتهامات منظمة العفو الدولية لها. أما صربيا فلم تعلق على كيفية وصول الذخيرة والسلاح المخصص لأوكرانيا إلى يد (الدعم السريع) في السودان”.

ومضى عوض قائلاً “أما بلغاريا فقد اعترفت للجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة عن بيعها السلاح لدولة معادية للجيش السوداني، ولكنها زعمت عدم معرفتها بكيفية وصول السلاح من الدولة الخليجية إلى مليشيات (الدعم)”.

شبكات تهريب

وأبرز أن “هناك سلاح أوروبي وكذلك أميركي مُتقدم بيد (الدعم السريع)، ولكن الدول الأوروبية عموماً بما فيها فرنسا تُحاول التملص من عبء هذه المليشيا عقب الإدانات الدولية الواسعة لانتهاكاتها ضد الإنسانية، وجرائم التطهير العرقي خصوصاً في ولايات دارفور، لذلك لا توجد دولة أوروبية حالياً تدعم المليشيا عسكرياً بصورة مباشرة، وإنما الدعم يكون بتوفير غطاء لحلفائها السياسيين في تنظيم (صمود) وتنظيم (تأسيس)”.

وخلص المتحدث إلى أنه “في حال نجحت مساعي وضغوط منظمات حقوق الإنسان على حكوماتها وعلى الاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن لتصنيف (الدعم السريع) منظمة إرهابية، فإن هذا سوف يقوم بتحجيم وصول السلاح الأوروبي إلى المليشيات في أفريقيا، وسيعجل من حسم التمرد العسكري في السودان”.

من جانبه، اعتبر المتخصص العسكري اللواء نصر سالم، أن “وصول هذه الأسلحة لـ(الدعم السريع) تم عبر شبكات تهريب لها مصلحة في ذلك، والدول التي تربح من مساعدة المليشيا معروفة ولها أطماع في الذهب الموجود في دارفور”.

وبين سالم أن “هذا لا يعني أن الحكومة المركزية في ألمانيا هي التي تُرسل الأسلحة، بل إن هناك شبكات تهريب تعمل على ذلك لصالح دول محددة، وهذه الأسلحة تمرّ عبر دول مثل تشاد وليبيا إلى (الدعم السريع) وهناك شبكات مهتمة بالاستثمار في ذلك”.

ثروات السودان تذكي الحرب وموقعه يسيل لعاب الطامعين

من الأراضي الخصبة والموقع الاستراتيجي إلى الذهب والماء، تحولت الموارد الطبيعية التي يتمتع بها السودان إلى عناصر جذب للتدخلات الإقليمية في النزاع المدمر المستمر هناك منذ أكثر من عامين.

تثير الأراضي الشاسعة الخصبة في السودان، ثالث البلدان الأفريقية من حيث المساحة، شهية دول الخليج الصحراوية، الواقعة على الضفة المقابلة من البحر الأحمر، إذ طالما نظر للسودان على أنه “سلة غذاء”.

قبل اندلاع الحرب الأخيرة، استثمرت الإمارات على نطاق واسع في السودان، حيث كانت شركاتها تدير آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية. وفي عام 2023، شكلت البذور الزيتية والأعلاف أبرز المنتجات المصدرة من السودان إلى الإمارات، بعد الذهب.

وقبل الانقلاب العسكري عام 2019، أجرى السعوديون والقطريون محادثات أيضاً في شأن استثمارات كبيرة في الزراعة بالسودان.

إضافة إلى ذلك تشير الباحثة في “أتلانتيك كاونسيل” عليا إبراهيمي إلى موقع السودان المطل على البحر الأحمر الذي يمكنه من “التأثير في الملاحة البحرية العالمية، والأمن والتجارة، من خلال مرافئه وقواعده البحرية”.

ويبدو أن هذا الممر الاستراتيجي الذي يعبر منه ما بين 10 و12 في المئة من بضائع العالم المنقولة بحراً، تراقبه الدول من كثب، ليس دول الخليج فحسب، بل أيضاً روسيا وتركيا اللتان حاولتا، إضافة إلى الإمارات، بناء قواعد بحرية أو الحصول على امتيازات لإدارة مرافئ هناك. إلا أن المحادثات بهذا الشأن تعثرت أو علقت.

مسارات الذهب

بعد انفصال جنوب السودان، حيث تتركز الثروة النفطية الأكبر، عام 2011 صار الذهب هو المورد الأبرز للسودان. وقبل الحرب كان الإنتاج السوداني من الذهب يزيد على 80 طناً سنوياً، بحسب المصرف المركزي. وكان جزء من هذا الإنتاج يصدر بقيمة وصلت إلى 3 مليارات و850 مليون دولار عام 2021، لكن منذ بدء الحرب، انحسرت صادرات الذهب الرسمية لمصلحة صادرات السوق السوداء، بحسب ما جاء في دراسة حديثة لمعهد “تشاتام هاوس”.

وجاء في الدراسة أن “المنافسة الاقتصادية بين الجيش وقوات (الدعم السريع) في استخراج الذهب وبيعه، هو عامل حاسم في الحرب الحالية”.

وغالباً ما يحط الذهب رحاله في آخر المطاف في الإمارات، سواء من طريق قوات “الدعم السريع”، أو الجيش السوداني عبر مصر.

وفي العام الماضي استوردت الإمارات كمية من الذهب تعادل ضعف ما استوردته عام 2023 (29 طناً في العام الماضي مقابل 17 طناً عام 2023)، بحسب منظمة “سويس آيد”.

ولا يقتصر دور الذهب على ضمان ولاء المقاتلين أو شراء الصواريخ والمسيرات، بل هو يعطي استمرار الصراع دافعاً اقتصادياً.

الإمارات وحلفاؤها

بعد اندلاع النزاع في 2023 قطعت الحكومة السودانية العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات، واتهمتها بدعم قوات “الدعم السريع” بالأسلحة والمرتزقة من تشاد وليبيا وكينيا وإثيوبيا والصومال، وهو ما تنفيه أبوظبي.

في مايو (أيار) الماضي نشرت منظمة العفو الدولية تحقيقاً تحدث، استناداً إلى صور وبقايا قذائف، عن وجود أسلحة صينية سلمتها الإمارات لـ”الدعم السريع”.

ومع أن دولة تشاد تقول إنها على الحياد في النزاع السوداني، فإن تقارير للأمم المتحدة وعدداً من الخبراء يتحدثون عن أن مطار “أم جرس” هناك تحول إلى مركز لهبوط طائرات الشحن الآتية من الإمارات والمتجهة لقوات “الدعم السريع” في إقليم دارفور.

ويرى الباحث في “المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة العابرة للحدود” أن الشرق الليبي، الذي يسيطر عليه المشير خليفة حفتر، أصبح هو الممر الأول للإمدادات الإماراتية لـ”الدعم السريع”. ويقول إنه منذ يونيو (حزيران) الماضي “هبطت في الشرق الليبي نحو 200 طائرة شحن عسكرية، محملة بأسلحة على الأرجح لقوات (الدعم السريع)”.

وذكر تقرير لمنظمة “ذي سنتري” الأميركية أن معسكر خليفة حفتر مدين لأبوظبي بالدعم الذي حصل عليه منذ عام 2014، وهو “مورد أساس للوقود لقوات (الدعم السريع)”، وبفضل هذا “الإمداد المتواصل” يمكن لهذه القوات مواصلة عملياتها في دارفور.

ترامب يتدخل

تصاعدت التحذيرات من تفاقم الوضع إذا لم تصحح الولايات المتحدة مسارها وتغير سياساتها التي استمرت لأكثر من عقد واتسمت بالتراجع عن إعطاء الأولوية للسودان وللقارة الأفريقية ككل، إذ أفسح غياب أميركا المجال للتأثيرات الاستبدادية العالمية لملء الفراغ، بحسب ما تشير إليه مديرة برامج السياسات العالمية في معهد جورج دبليو بوش هانا جونسون.

ووفقاً لرؤية جونسون، فإن ما يحدث في السودان هو دليل على أن الولايات المتحدة والمجتمع الدولي يجب أن يزيدا الضغط على كل من أسهم في تسهيل العنف والفساد وإساءة استخدام السلطة في جميع أنحاء السودان، وهذا يشمل “الدعم السريع” والقوات المسلحة السودانية، وجهات خارجية أخرى فاعلة مثل روسيا وإيران والصين وكوريا الشمالية، التي استغلت الصراعات وعدم استقرار الحكم لتحقيق أهدافها، ولكي ينتهي ذلك يجب منع الإفلات من العقاب، وتطبيق العقوبات القائمة بالكامل وتوسيع نطاقها، ومحاسبة من دعموا الأطراف المتحاربة سواء “الدعم السريع” أم القوات المسلحة السودانية، كما يجب على الولايات المتحدة تصنيف “الدعم السريع” كمنظمة إرهابية أجنبية.

التاريخ يعيد نفسه

بفعل قوات “الدعم السريع” (وهي النسخة الأحدث من ميليشيات الجنجويد) وتواطؤ أطراف دولية، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه بطرق عدة في عام 2025، فقبل 24 عاماً، وفي مطلع عامه الأول في الرئاسة، أطلق الرئيس الأميركي آنذاك جورج دبليو بوش، وهو يعلق على مقالة تتناول التقاعس الأميركي إزاء الإبادة الجماعية في رواندا، قوله الشهير: “ليس في عهدي”، محاولاً بذلك وقف العنف العرقي المتصاعد في إقليم دارفور غرب السودان.

وإضافة إلى اعترافه العلني بطبيعة العنف والإبادة الجماعية، دعم الرئيس بوش وإدارته مجموعة من الإجراءات من خلال الكونغرس والأمم المتحدة لتعزيز حماية السكان المستهدفين في دارفور، والضغط على الحكومة السودانية وحلفائها من “الجنجويد” لوقف الاضطهاد الفعلي.

أدى هذا في نهاية المطاف إلى تحريك تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية وإصدار مذكرة توقيف في حق الرئيس السوداني في حينه عمر البشير بتهمة الإبادة الجماعية، كما دين قائد الجنجويد علي محمد علي عبدالرحمن (علي كوشيب) في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهو أول حكم من نوعه ينبثق عن إحالة الأمم المتحدة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية عام 2005 في مفارقة غريبة من نوعها، ففي الوقت نفسه وفي المكان نفسه يواجه عشرات الآلاف من المواطنين السودانيين مجدداً إبادة جماعية وتطهيراً عرقياً.