هل للغة العربية مستقبل؟

جمال أبو الحسن /

البكاء على انحدار اللغة أمرٌ شائع. هو ليس وقفًا على لغة الضاد وأهلها، وإنما هو ظاهرة تكاد تكون عالمية. تجد أن الإنجليزى فى العصر الفيكتورى يتباكى على الإنجليزية فى زمن إليزابيث، ومَن عاش فى هذا الزمن الأخير يعتبر أن اللغة انحدرت وانْحَطّت عن «ماضيها العريق» السابق على زمن إليزابيث! وتجد عربًا يبكون حال اللغة وما آلت إليه من تدهور حتى فى عصور نحسبها اليوم ذروة فى الإبداع الحضارى والثقافى. مَن ينسى بكائية «حافظ إبراهيم» الشهيرة التى يتحدث فيها على لسان اللغة العربية المغدورة، ويقول فى مطلعها: «رجعتُ لنفسى فاتهمتُ حَصَاتى.. وناديتُ قومى فاحتسبتُ حياتى»، ويقول فيها أيضًا: «سَرَتْ لوثة الإفرنج فيها كما سَرَى.. لعابُ الأفاعى فى مسيرِ فُراتِ»؟ وعندما نعرف أن هذه القصيدة كُتبت فى مطلع العشرين، وأنها تلمس ذات المخاوف والهواجس التى يُرددها اليوم الخائفون على العربية والمشفقون على حالها، نُدرك أن الخوف على انحدار اللغة قديمٌ/ متجدد، وأنه ظاهرة ثقافية واجتماعية متكررة فى مختلف الحضارات التى يداهمها هاجس الذوبان والتماهى مع ثقافات أخرى وافدة.

الخوف على اللغة، أى لغة، مشروعٌ ومفهوم. إنه خوفٌ على أعز ما تملك الجماعة: محل ثقافتها المشتركة ومنبت وعيها الممتد من الماضى إلى الحاضر. الجماعة تفقد ذاتها إن هى فقدت لغتها أو فرّطت فيها. على أن الخوف لا يُبرر التباكى والانهزامية الجماعية. هذا المعنى الإيجابى ربما كان المحور الأساسى فى تقرير مهم أصدرته وزارة الثقافة والشباب بدولة الإمارات تحت عنوان «حالة اللغة العربية ومستقبلها». وكان لكاتب السطور حظ حضور فعالية استضافتها الإمارات قبل أيام، بالتعاون مع جامعة الدول العربية، بمناسبة اليوم العالمى للغة العربية، وأيضًا فعالية مهمة عُقدت بدبى عل هامش الإكسبو تحت عنوان «قمة اللغة العربية». ويُحمد للإمارات أن جعلت اللغة العربية، وقضاياها، حاضرة فى «إكسبو». هى رسالةٌ مهمة بأن الإنجاز العلمى والتكنولوجى لابد أن يتأسس على ثقة فى الهوية الذاتية، وأهم مكوناتها اللغة.

التقرير يضىء زاوية أخرى لقضية اللغة العربية. إنها لغة حيةٌ بكل المقاييس. بل هى من اللغات القليلة للغاية التى صمدت أمام تحدى الزمن عبر القرون، وربما لا يُضاهيها فى ذلك سوى الصينية، التى ظلت من دون تبديل تقريبًا لثلاثة آلاف عام. ساعد على صمود العربية، بالطبع، الصلة الوثيقة التى تربطها بالدين الإسلامى. على أن أسبابًا مختلفة تجعل العربية تتوسع، ولا تنكمش، فى عالم اليوم. هى خامس اللغات انتشارًا على ظهر الأرض، وهى لغة رسمية من لغات الأمم المتحدة الست منذ السبعينيات. وينطق بالضاد نحو 420 مليون إنسان (أى 6% من سكان المعمورة)، وهى لغة رسمية فى 26 دولة.

والحال أن المعضلة الكبرى التى تواجه العرب اليوم تتمثل فى ذاك الفصام المخيف بين لغة التواصل بين الناس فى الحياة ومراكز الإنتاج (وهى اللغة العربية)، وبين اللغة المستخدمة فى صناعة المعرفة وتداولها (وغالبًا ما تكون الإنجليزية). ليس المرء فى حاجة إلى جهد كبير ليلمس حالة الفصام هذه. إنها الباعث الأساسى وراء حرص الأسر، بامتداد العالم العربى، على أن يتلقى أبناؤها التعليم باللغة الإنجليزية، أو سواها من اللغات الأجنبية، عِوضًا عن اللغة العربية. تُدرك الأسرُ أن العربية لا مستقبل لها فى سوق العمل، فيما تُمثل الإنجليزية بوابة الولوج إلى هذه السوق.

ورغم ما تمنحه الإنجليزية للفرد من فرصٍ أكبر للنجاح، سواء فى مجتمعه أو فى مجتمعاتٍ أجنبية، فإن انتشارها، بديلًا عن اللغة الوطنية، وسيطًا لاستهلاك المعرفة وإنتاجها، يحرم المجتمع فى مجموعه من فرصٍ مهمة. كيف؟

التناقض بين اللغة المحكية ولغة المعرفة يمنع إقامة ما يُعرف بـ«مجتمع المعرفة»، وهو مفهومٌ يجرى تداوله باعتباره المدخل إلى التنمية فى هذا العصر. ويُعرف برنامج الأمم المتحدة الإنمائى مجتمع المعرفة بأنه «ذلك المجتمع الذى يقوم أساسًا على نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاءة فى جميع مجالات النشاط، من الاقتصاد إلى السياسة إلى المجتمع المدنى والحياة الخاصة، وصولًا إلى ترقية الحالة الإنسانية باطّراد.. أى إقامة التنمية الإنسانية».

بكلامٍ آخر، عندما نتحدث باللغة العربية فى حياتنا العادية وأنشطتنا الإنتاجية، ثم نُضطر إلى استخدام لغة أخرى فى التعليم الأكاديمى، وبخاصة فى المجالات العلمية والتكنولوجية، فإن ذلك يحرم المجتمع من الاستفادة من كل إمكاناته. محصلة هذا الوضع هى حصر المعرفة فى نطاق ضيق ممن يجيدون اللغات الأجنبية، وحرمان قوة العمل الكبيرة فى المجتمع من توطين التكنولوجيا والعلم. لهذا السبب على وجه التحديد نجد أن بلدانًا كثيرة فى آسيا أظهرت حرصًا لافتًا على صيانة لغاتها الوطنية كلغة للتعلم والعلم والتكنولوجيا. هذا ما يجعل انتشار المعرفة ممكنًا على مساحة أوسع فى المجتمع وقاعدته الإنتاجية، ويسمح بتداول المعرفة ومراكمتها.

الواقع الصادم هو أن اللغة العربية اليوم ليست منتجةً للمعرفة. بحسب اليونسكو، فإن نسبة إنتاج الوطن العربى من الكتب إلى الإنتاج العالمى فى ربع القرن المنصرم هى 0.9%، بينما النسبة فى أوروبا هى 50%. عدد كُتب الثقافة العامة التى تُنشر سنويًا فى العالم العربى لا يتجاوز 5 آلاف، بينما يصدر فى أمريكا 300 ألف عنوان، علمًا بأن الكتاب الدينى لا يزال الأوسع انتشارًا فى النشر العربى. ولا يترجم العالم العربى سوى 475 كتابًا سنويًا فى المتوسط، فيما تترجم إسبانيا (وعدد سكانها 46 مليونًا) 6 آلاف كتاب! هذا الوضع يُحتِّم على الراغبين فى التحصيل العلمى عالى المستوى إتقان لغة أجنبية. البديل عن ذلك هو التخلف عن مواكبة العصر بمنجزه التكنولوجى والعلمى.

أحد الحلول الواضحة لمواجهة هذه الفجوة المعرفية يتمثل فى الترجمة والتعريب. ويرصد «تقرير حالة اللغة العربية» جهود عدد من الدول العربية فى تعريب العلوم، منذ قرن وأكثر. بدأت المحاولات بتعريب الطب فى مصر فى 1827، ثم فى الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية فيما بعد) فى 1866. وتوالت جهود كثيرة على هذا المسار، يرصد التقرير تعثرها، ثم التراجع عنها لاحقًا بسبب اكتساح المنتج العلمى باللغات الأجنبية والحاجة الماسّة للمواكبة. وعلى سبيل المثال، فإن كلية الهندسة بجامعة الملك عبدالعزيز بدأت برنامج تعريب العلوم الهندسية عام 1980 ثم أوقفته بعد 8 سنوات. أما فى سوريا والجزائر، فقد اكتسب التعريب معنى سياسيًا مثيرًا للجدل، تأرجح بين النجاح والإخفاق.. خاصة فى حالة سوريا، التى أنجزت تعريبًا كاملًا لكليات الطب.

التعريب قضية معقدة للغاية. تخبط السياسات العربية حيالها يكشف عن خطورة التعاطى معها بقرارات لحظية، ومن دون استراتيجية شاملة بعيدة المدى. على أن مستقبل لغتنا، تلك اللغة الشاعرة البديعة الناقلة لحمولة حضارية ثرِيّة، رهنٌ بأن تصير لغة علم ومعرفة، وإلا استحالت لهجةً مَحْكِيّة عاجزة عن تحقيق الاتصال مع العصر، حتى وإن حققت الاتصال بين الناس!.

.