قراءة في كتاب أفكار عابرة للكاتب زيدان نجم

موسى الزعيم
عرفَ التّراث السردي العربي الكثير من الكتب التي احتفت بالحكمة والقول المأثور والموعظة الحسنة، سواء جاء ذلك على لسان الفلاسفة أو المفكرين والكتّاب أم العامة من الناس.
تحفل المكتبة العربية بالكثير من هذه الكتب المُمتعة والتي تحوي على الطرف والمِلح والأقوال المأثورة، مثل كتاب المُستطرف في كلّ فنّ مُستظرف للأبشيهي، وكتاب الحِكم العطائيّة لابن عطاء السكندري المولود سنة 1260 م 1309 م وقد ضم هذا الكتاب 259 حكمة وموعظة وأربع رسائل منفصلة، كذلك كتاب حكم لقمان التي توارثت الأجيال مقولاته.
وغيرها من الكتب التي احتفت بما أنتجه الانسان من معرفة وتجربة عبر سنوات طوال.
في العصر الحديث عرفنا كتباً أخرى مثل كتاب روائع الحكمة والأقوال الخالدة الذي صدر عام 1933 والذي قدّم له الأديب اللبناني روحي البعلبكي، وكتاب حكم وأقول مأثورة للدكتور مصطفى محمود. بالإضافة إلى ما حفلت به كتب جبران خليل جبران من أقول وحكم احتفى بها كلّ قارئ عربي في شبابه.
إنّ المتتبع لحركة المعرفة والفكر الإنساني، يجد أنّه في كلّ حين من الزمن يحتفي بعض الكتاب والناشرين بما أنتجه العقل البشري من حكمة اجتماعية حياتية، فهي في الغالب تسهّل حياة الانسان، وتمنحه وقِفة تأمل ومراجعة لكثير من مواقفه خاصّة وأن هذه الأقوال هي عُصارة وخلاصة جهد فكري انساني عابر للزمان والمكان.
في كتاب أفكار عابرة للكاتب زيدان نجم والذي صدر مؤخراً عن دار الدليل للطباعة والنشر في برلين يمزج بين الخاطرة والمقولة الأصيلة ومن ثم تشريح بعض هذه الحِكم والأقوال واستنطاقها والحفر في دلالاتها المعرفية، إذ يمزج ما توصّل إليهِ بخاطرةٍ شفافةٍ، لكن لها قيمتها الإبداعية والجمالية وعمقها المعرفي.
ولا ننسى أن الخاطرة، هذا الفنّ الإبداعي الجميل، الذي بدأ يتلاشى في سردياتنا الأدبية، فقلما نقرأ اليوم كتاباً صدر حديثاً، يحمل بين طيّاته بوح الخاطرة في اقتناصها للحظات الجمال الممزوجة بالعاطفة، وبما تحمله من لقطات مشهديّه عبر صورٍ لغويّة جميلة تتواتر تباعاً.
يضمّ الكتاب بين دفتيه عدداً من الأقوال المأثورة والحكم التي تناقلتها ذاكرة البشر وبقيت على ألسنة العامة، لكن هذه المقولات لم تكن أقوالاً عابرةً، بل هي خلاصة تجربة بشرية، مُستلهمة من خبرة الأنسان وتجاربه ومواقفه من قضايا الحياة، وقد اختبرها عبر سنيّ حياته، لتصل إلينا مكتنزة، تصلح لكل زمان ومكان، من جهة أخرى، جاء الكتاب بفكرة جديدة وهي أن يطرح الكاتب الفكرة أو المقولة ثم يشرّحها، يحللها، ويرى مدى انعكاسها على حياة الناس، ما المغزى منها، ما الهدف، مآلاتها، وجماليتها، مواطن استخدامها، وفي بعض الأحيان يربطها بقصص وحكايات قصيرة، لكنها مكثفة التجربة والخبرة، تصبّ في سياق الموضوع ذاته، ثم يتساءل إلى أي مدى تلعب هذه المقولة دوراً تنويرياَ في حياتنا، فالحكمة تساعد الناس على اتخاذ القرارات الصحيحة والتصرف بعقلانية، في مختلف جوانب الحياة، بينما تعمل الموعظة على توجيههم نحو الخير وتعزز القيم والأخلاق الحميدة لديهم.
في كتاب أفكار عابرة، تعددت المقولات وتجارب الحياة، لفنانين وكتّاب وقادة، وشعراء مفكرين، نقرأ لسقراط وافلاطون ونزار قباني وسفيان الثوري وبرنارد شو، وجودي بلوم، وتشرشل… شخصيات من مختلف مشارب الأرض، تركت بصمتها على سجل الإنسان، سواء كانت هذه المقولات لشخصيات عربية أو عالمية أو حتى للكاتب نفسه، والذي تتفتق خبرته ومخيلته عن الكثير من المقولات والحكم.
فمثلا بعض هذه المقولات، جاءت من أجل المساهمة في تربية الفرد وإعلاء شأنه، تحمل قيماً أخلاقية تربوية، وخاصّة فيما يتعلّق بالأطفال وتربيتهم، التربية السليمة الناقدة المحرضة على التفكير، التربية التي تُعلي من شأن الحوار وتحرّض على اتباع منهج التفكير الواعي والسليم والانفتاح على الحياة وإعلاء قيمة ما يبديه الطفل من آراء، وطروحات وتشجيعه على ذلك.
” دعْ الأطفال يقرؤون ما يحبّون، ثم تَحدّث معهم بشأنِ ما قرؤوه، فإذا تمكّن الآباء والأبناء من التحدث معاً، فلن نحتاجَ إلى الرقابة المُشددة لأنّ الخوفَ سيختفي”
هذه المقولة لكاتبة الأطفال الأمريكية (جودي بلوم) التي ولدت عام 1938م والتي اشتهرت، بسبب كتاباتها للأطفال والمراهقين وقد اتسمت، بالوضوح والصراحة وإعلاء شأن التفكير المنطقي.
يُحلل الكاتب هذه المقولة من حيث بنيتها الدلالية واللغوية، ومن جهة حمولتها المعرفية والتي هي بالأساس وليدة التجربة والخبرة المعمّقة في الحياة، وقد صدرت عن ذات فاعلة لها حضورها في السياق الحياتي والمعرفي والثقافي والاجتماعي، ومن ثم يسرد الكاتب الهدف والمغزى من هذه المقولة، مُستخدماً صيغة فعل الأمر في خلاصاته ونتائجه، داعياً الآخرين لتمثل تلك المعرفة والاستفادة منها واستخدام فعل الأمر في هكذا تحليل، يعطي القطعيّة والتأكيد على نجاعة هذه المعرفة وجدّيتها مثل
” اجعلْ طفلك قادراً على التفكير والتحدث بانفتاح.. كُنْ مثالاً لابنكَ أو تلميذكَ.. كُنْ أكثر جديّة، اِجعله يشعر بالفخر، شجّعْه بالكلمات“
بعض الأفكار جاءت من مخيّلة الكاتب أو من تجربته الشخصية الحياتية، مما تعلّمه وعاشه واختبره على صعيد الحياة، بشكلٍ عام فاختمرت في ذاته، وهكذا أفكار، عادة لا تأتي عفو الخاطر، وإنما نتيجة الممارسة الفعليّة لقضايا الحياة من مثل ” لا يوجد إنسان كامل، ولكن يمكننا جميعا أن نسعى لأن نكون الأفضل”
في هذه المقولة على سبيل المثال يعرّف الكاتب الحياة على أنّها رحلة أو وسيلة أو عملية، تقدّم لنا فرص التعايش، لذلك فكلّ ثانية فيها، لها قيمتها الخاصة، وتتيح لنا فرصةً جديدةً للتواصل والسعادة، لذلك وحسب رأي الكاتب ” اجعلْ سعيكِ لتحقيق اسطورتكَ الخاصة “
القصصُ للاستدلال والحكايات لاستخلاص العبر وتثبيت المغزى:
في الكتاب يدعم الكاتب أفكاره وطروحاته بعدد من الحكايات والقصص التي خاضها البشر، في بعض الأحيان كانت هذه القصص من تجارب شخصيات معرفة محفوظة في الذاكرة البشرية مثل ” نيلسون مانديلا أو ماري كوري .. أو هي قصص تناقلتها ألسنة العامّة، تعرض لبعض مواقفها من الحياة من خلال ما مرّ معها في سياق حياتها.
ففي تثبيته لمقولة سفيان الثّوريّ ” ما رأيتُ عبادةً أجلّ وأعظم من جبرِ الخواطر” وسفيان الثوري هو فقيهٌ زاهدٌ، عاش في القرن الثاني الهجري.
يسوق الكاتب حكايةً لتثبيت موعظة سفيان الثوري ملخّصها ” أن امرأة فلاّحة مُسنّة تركب الطائرة إلى جانب راوي الحكاية، قدمت مضيفة الطائرة وجبة الطعام للجميع، فيها قطعة حلوى بيضاء، ظنتها المرأة أنّها قطعة جبن، بدأت العجوز تأكل الحلوى بالخبز، مُعتقدة أنّها قطعة جُبن، عندما اكتشفتَ أنّها حلوى شعرتْ بالحرج، يقول راوي الحكاية، فعلتُ مثلها وأكلتُ قطعة الحلوى بالخبز، لكن المرأة، ضحكت فقلت لها: سيدتي لماذا لم تخبريني أنّها قطعة حلوى.. لم يشأ الرجل أن يُحرجها، يقول ” كنتُ أعرفُ أنّها مجرّد رحلةٍ وسوف تنتهي”.
يعود الكاتب إلى صيغة الأمر بأسلوب مُحببٍ لطيفٍ، ليخاطب القراء، مُستدلاً على ذلك بما استخلصه من القصة العبرة التي ساقها، شاهداً على موعظة سفيان الثوري ” اِجبروا الخواطر، راعوا المشاعر، انتقوا كلماتكم ،تلطّفوا بأفعالكم، قولوا للناس حسناً وعيشوا أنقياء، سنرحلُ ويبقى الأثر!
في مقولة “سرّكَ أسيركَ، فإذا تكلّمت به، صرتَ أسيرهُ” وهذه المقولة للإمام علي بن أبي طالب، يسوق في هذا المجال حكاية من الحياة الألمانية مَغزاها ” أنه في أحد سجون ألمانيا، كان السجانون يعاملون رجلاً يدعى ” شميدث” معاملة خاصّة يحصل على امتيازات لا يحصل عليها الآخرون، مما جعلهم يشّكون به، فلربما كان عميلاً مزروعاً بينهم، حاول اقناعهم في نفي التهمة عنه، لكنهم لم يصدّقوه، مما دفعه لإبلاغهم، أنه يكتب في رسائله لأهله بعض كلمات المديح للحراس والسجانين ويثني على بعضهم بالاسم.
ثم أوصاهم أن يفعلوا ذلك في رسائلهم، لأنّ السجانين يقرؤون الرسائل قبل خروجها من السجن.
في الأيام القادمة تغيرت معاملةُ الحرّاس مع الجميع، لكن نحو الأسوء، ليكتشف شميدث أنّ المسجونين كتبوا في رسائلهم: شميدث عَلَمنا طريقةً جديدةً لكي نخدع الحراس الملاعين ونكسب ثقتهم ورضاهم.
يرى الكاتب أنّ الهدف من هذه القصة أو الحكاية: من الجميل أن تساعد الآخرين، لكن الأجمل أن تعرف مع مَن تتكلّم، فليس كلّ مُستمعٍ ناصحٍ، وما يتناسب معك، لا يتناسب مع غيرك لذلك: لا تكثروا من الفضفضة، فإنكم لا تدرون متى يخونُ المنصتون ولا تبوحوا بأسراركم للآخرين لكي لا يقوموا باستغلالها ضدكم.
وكما في مقولة ريجس نادو وهو فيلسوف وصحفي فرنسي، عاش في القرن الماضي وله عدد من الاقتباسات والمقولات التي اشتهر بها منها مقولته ” مهما فكّرت في نفسك، فأنت أقوى ممّا تتخيّل، كل ما عليك هو أن تثق بنفسك جيدا”
لتفكيك مغزى هذه المقولة، يسوق الكاتب حكاية حدثت للمناضل العالمي الكبير نيلسون مانديلا مع أستاذه الجامعي الأبيض ” بيتر” عندما كان مانديلا يدرسُ الحقوق، من هذه المواقف التي تسوقها الحكاية مثلاً أن مانديلا حمل طعامه في مقصف الجامعة وأراد الجلوس إلى جانب بيتر، ليقول له استاذه يبدو أنك لا تفهم أنّ الخنزير والطير لا يجلسان معاً ليأكلان الطعام، فأجابه مانديلا على الفور ” لا تقلق أيّها الأستاذ سأطير بعيداً عندك”.
هذا موقف من ثلاثة مواقف حملتها الحكاية، تعكس ثقة مانديلا بنفسه وقوّة حجته وسرعة بديهيته، من هنا خلص الكاتب إلى نتيجة ضمنها في الهدف من وراء تلك الحكاية: إياك أن تسمح لأحد أن يسرق منك ثقتك بنفسك.
ثم يخلصُ إلى ما يلي: مُستدلاً بمقولة مارك توين “لا تناقش السّفهاء، فيستدرجونك، إلى مستواهم، ثم يغلبونك بخبرتِهم في النقاش السفيه”.
في مواطن أخرى اعتمد الكاتب على بعض الأفلام العالمية والتي يعرفها الناس، بل أُغرموا بها وذلك عملا من الكاتب، لنقض ما علق في الذهنية العامة من زيفٍ، يسوق على ذلك مثالاً، فيلم تيتانيك وفيلم ، Cast away
في تشريحه للمقولة “إماطة أفكارنا لا تقلّ درجة عن اغتصاب عقولنا” يسوق حدثا سينمائيا من فيلم تيتانيك، حيثُ مات أغلب الناس في الفيلم نتيجة الغرق، بينما مات بطل الفيلم نتيجة برودة الماء، لم يتعاطف المشاهدون مع النساء والأطفال والمسنين الغرقى، بل مع البطل، مع أنه لصّ، مُدمن، ولاعب قمار”.
يرى الكاتب أنّ هذا هو دور الإعلام، هكذا يتلاعب بنا، حيثُ يسلّط الضوء على ما يريدهُ و ما يحقق له المنفعة المادية والسياسية والمذهبية وغيرها.
وسائل الإعلام تمارس العَبث بعقول الناس، فهي تريدهم أن يروا المشهد من زاويتها فقط.
عبر 120 صفحة التي ضمّها الكتاب، والتي يسعى فيها الكاتب فيها إلى محاولة الارتقاء بخبرة الانسان من خلال زيادة وعيهِ وربط تجارب مَن سبقوه بتجارب العالم الحديث.
لكني كنتُ أتمنّى على الكاتب لو أنّه وضعَ فهرساً تعريفياً بأسماء الشخصيات التي وردت مقولاتها في متن الكتاب، لعل ذلك يكون عوناً للقارئ ليعرف ما السياق التاريخي والمعرفي الذي اشتغلت عليه هذه الشخصيات، لتغدو مقولاتها أمثولة تتناقلها الأجيال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
زيدان نجم كاتب عراقي مقيم في هولندا.
.