عندما يضيء الشعر في تفاحة وصولجان

من الشعر الألماني المعاصر

موسى الزعيم

 تفّاحة وصولجان، عنوان الكتاب الذي صدر مؤخراً  للمترجم  والشاعر وحيد نادر وهو مجموعة من القصائد المختارة للشاعر الألماني المعاصر “أندريه شينكل” من ترجمة وتقديم الشاعر والمترجم وحيد نادر.

يطرح المترجم في كتابه عدّة قضايا لها أهميتها، فيما يتعلق بالترجمة من الألمانية إلى العربية، والأدب وسعي الثقافة الألمانية لاستيعاب العالم أو ما يُسمى عالميّة الثقافة، كذلك يُعالج الموضوعات التي تشتغل عليها القصيدة الألمانية، وأسلوب الكتابة الشعريّة لدى الشعراء الألمان، بالإضافة إلى احتفاء الكتاب بعددٍ من النصوص الشعريّة، التي تُدخل القارئ العربي في أفقٍ جمالي جديدٍ، لم يتطرّق إليه أدبنا العربي، مما يفتح الباب عن تساؤلات الحداثة الشعرية عند الغرب.

يقع الكتاب في 180 صفحة من القطع المتوسط، من حيث المنهج قسّمه المترجم إلى مقدمة، والتي تقع في حوالي 45 صفحة.

جاءت المقدمة لازمة لفهم الحالة الشعرية والثقافية في ألمانيا وخاصة في ولاية سكسونيا انهالت، ومن ثم جاء القسم الثاني الذي يضم  القصائد المترجمة في فصلين، تحت عنوان تفاحة وصولجان و طيور الحب. 

في المقدمة: يعرّف المترجم بكتابه من خلال منهجٍ تاريخي بحثيّ دقيق، يتحدث فيه بداية عن تأصيل مصطلح الأدب الألماني الحديث، إذ يُرجعه الأكاديميون الألمان إلى عام  1990 من خلال تسميته اصطلاحاً بالأدب الألماني المُعاصر حتى 2013 تبعاً لما تضمنته هذه المرحلة من أحداث سياسيّة ألمانية وعالميّة أهمها جدار برلين الذي قسّم العالم أربعين سنة، ضمن عالمين رأسمالي واشتراكي، وما تبعه بعد ذلك من تأثيرات الوحدة الألمانية” هذا الأدب يحمل مواصفات ما قبل الوحدة وتأثيرات الحرب العالمية المترسّبة في النفوس و ارتدادات ما بعد الوحدة.

يستند المترجم إلى خبرته في الحياة الثقافية الألمانية وعضويته في اتحاد الكتاب الألماني منذ فترة طويلة، ما يعطي للبحث مصداقية من خلال قربه من الواقع الثقافي العملي باعتباره عضوا فاعلا ذا خبرة في التاريخ الثقافي الألماني المعاصر و الشعري تحديداً.

ومن خلال ذلك يرى أنّ القطبيّة السياسيّة في تعددها أو أحاديتها لا تؤثر دائماً على موقف الكاتب الجمالي ولا حتى السياسي فيما يكتبه” موقف الكاتب جزءٌ من شخصيته وانتماءاته العاطفية والبيئية التي اكتسبها في سنوات عمره الأولى” وعليه فإن الأدب الذي عمره تقريباً ثلاثين عاماً أدب الوحدة أو أدب التحول يحمل في ” طياته الجسدية والشكلية والروحية و المضمونية” ألمانيا العظمى اقتصادياً وسياسياً ..

هذا القول بالتحديد سوف نراه بوضوح في نصوص شينكيل التي تحتفي  بالمكان والبيئة التي أتى منها وعاش وتربي فيها.

من جهة أخرى يُسلط المترجم الضوء على دور الشاعر الألماني الفاعل في أوربا عموماً ليس ذلك فقط بل تجاوزت حدوده أوربا إلى بقية دول العالم  من أميركا إلى الهند  هو غزو ثقافي شعري كما يفعل الاقتصاد في العالم، فالثقافة رأس يقود الاقتصاد ويسبقه، إلى أماكن فعله، والدليل وجود معهد غوته في كثير من بلدان العالم.. وبما يقدمه من خدمات ودعم، لمن يُترجم عن الألمانية ويمكن للمرء أن يرى استيعاب ألمانيا للعالم من خلال جنسيات المترجمين عن اللغات المختلفة والذين يعيشون على أرضها.

إن دلّ ذلك على شيء إنما يدل على سِعة الأفق الألمانية نحو استيعاب العالم ثقافياً واقتصاديا.

بعد ذلك يسلط الكتاب الضوء على الحركة الثقافية والشعرية والشعر المعاصر في مُقاطعة ساكسونيا انهالت والتي يعيش فيها.

يرى الباحث أنه من حيث الشكل لا يمكن تمييز الشعر في هذه المقاطعة عن  السياق الشعري الألماني بشكل عام.

لكن ثمّة ملامح  يمكن للباحث المدقق أن يلمحها، وذلك من خلال كيفية تناول الموضوعات المطروقة من خلال وجود بعض المفردات الأجنبية والتي تقرأ من زاوية  وجود الأجانب في هذا الحيز الجغرافي فحيث يكثر الروس تتسرب مفردات روسية أو سلافية إلى السياق الشعري وكذلك الإنكليزية أو وجود مفاهيم الحرية أو وجود أدب الرحلات في ساكسونيا انهالت قبل غيرها.

هذا الاختلاف ليس بالضرورة أن يكون ناتجاً عن اختلاف سياسيّ وإنما يعزوه الكاتب إلى الاختلاف البيئي والمكاني والثقافي، اختلاف  يشبه حالة شاعر عاش ظروفاً ثقافيّة تختلف عن شاعر آخر في مدينة لها ظروفها وحيزها المكاني والعمراني ..

هذا الاختلاف بين شاعرين ألمانيين يشبه اختلاف  نظرة أخوين يعيشان في بيت واحدٍ لكل منهما رؤيته الخاصة للفلسفة والحياة والكون وعليه من الصعوبة التفريق بين نصين لشاعرين عاشا في ألمانيا، أحدهما شرقي والأخر غربي.

أنجز المترجم وحيد نادر كتابه ” مختارات من الشعر الألماني الحديث أندريه شينكل نموذجاً ” عام 2020 في إطار مِنحة قدمتها الولاية من أجل التعريف بشاعرها أندريه شينكل من خلال القصائد عمل الشاعر مع المترجم في علاقة تشاركية لأن الكثير من رموز القصيدة لا تفكّ ولا يمكن الولوج إلى عالمها الخام دون التواصل مع الشاعر أو فهم الشاعر إنسانياً وإبداعياً، وبالتالي هذا يسهل الدخول إلى عالم القصيدة، وبالتالي ترجمتها

من هو اندريه شينكل؟

كاتب وعالم آثار ألماني، يكتب الشعر والقصة والمقالة الأدبية وهو من مواليد 1972 يعيش في مدينة هالة.

درس الأدب الألماني وتاريخ الفنّ وعلوم الآثار ما قبل التاريخ وحصل عام 2001 على درجة الماجستير في الفنون أصدر كتابه الأول عام 1998 عندما كان طالباً كما حصل على عددٍ كبير من الجوائز وبلغ عدد كتبه حتى الآن 30 كتاباً.

بالإضافة إلى رعايته لكثير من الورشات الأدبية وعمله كاتباً ومحرراً وناقداً ادبياً في مجلة “موطن الأعين ODA” كذلك هو عضو في رئاسة تحرير مارجيناليا “هوامش” المتخصصة في فنون الكتب.

كما تولى إصدار طبعات مجلة ” كِلس القوقعة” انطولوجيا شعراء تورينغن” وقد فاز بالكثير من المنح التي تقدمها مدن ألمانية لشعرائها من أجل التنقيب في تاريخ هذه المدينة أو تلك وتخليدها شعرياً

بالإضافة إلى انشغاله بالقضايا العلمية والمقارنة بين الأدب و الأركولوجيا  والأسئلة المتعلقة بالعصر الحجري الحديث كتربية الماشية والرعي و الزارعة  ومن استقرار بشريّ ضمن جغرافية وسط أوربا.

ما يهمنا في هذه النقطة تحديداً انها تنعكس بوضوح على موضوعاته الشعرية ونصوصه.

في هذه الترجمة قصائد من أعمال الشاعر  أندريه شينكل وبمساعدته وقد تم انتخابها على أساس ملائمتها لموضوع الكتاب الحبّ، الغزل، ومشاكلهما الإنسانية وتجلياتهما في النفس والحياة والطبيعة

حسب رأي المترجم تم استبعاد بعض القصائد التي يصعب ترجمتها إلى العربية. لأنّها إما أن تكون في مجملها لعبة لغزيّة ربّما لا تصل عبر الترجمة إلى القارئ أو فيها جانبٌ لا يمكن الإمساك به أو بما تحمله من صور شعريّة يصعب فهمها على الاختصاصي.

عندما يُضيء الشعر

معروفٌ عن شينكل كتاباته السوداوية الأسطورية البراقة فنياً، إذ يصف نفسه بأنّه كلاسيكي فوضوي، فهو يكتب بالطريقة اللعوب أو المرحة السهلة ومن وجهة نظره أنّ الشعر وصل إلى وضع صعبٍ لكنهُ مضيء فعلاً.

من خلال نصوص الشاعر المترجمة في كتاب تفاحة وصولجان، يجد القارئ أنّها لا تفكك فهي تُقرأ في الإطار الكلّي للقصيدة العام لمكوناتها أو ما يُعرف بالوحدة الكليّة، اعتماداً على دمج مكوناتها في إيقاع داخلي متواترٍ مُتصاعد، من خلال صورها ولغتها، وعبر تواشج اللغة فيها، معتمدة على تجاور الأضداد أو تنافرها، أو مخاتلة اللفظ للمعنى وكسر رَتم الصورة النمطيّة، ما يشكّل نصّاً جمالياً متماسكاً في وحدته الكليّة، مكثفاً على صعيد اللغة، مما يوصل إلى الدفقة الجمالية المتواترة في خيال القارئ.

من جهة ثانية فإن نصوص أندريه شينكل تفتح الباب أمام تساؤلات الشعر وعلاقته بالمكان

ومكوناته وعلاقته بالأسطورة والتاريخ، والميثولوجيا، فقصائد الشاعر تفتح الباب واسعاً أمام قرب الشعر من مكونات الطبيعة والدخول في عمق التفاصيل فكان الشاعر منقباً باحث يحمل عَدسة مُكّبِرة يسلطها على المكونات التي ربّما لا نحفل بها، وقد تجلّى ذلك في دمجه بين دراسته العلمية والبيئية وتوظيف كلّ ذلك في خدمة الشعر.

من خلال بعض عناوين القصائد هنا، يمكن للقارئ أن يشكّل تصوراً ولو مبدئياً عن متن النصوص التي يضمها الكتاب، مثل قصائد الحبّار، الحدأة تحوم، نبتة جنكة من أجل كلارا، بئرُ الرّغبة، طيور حبّ الطلّع، أمينوفيس يتكلّم عن صرحه العظيم، صيدُ المينوتور، كهوف الساحرات، حول السيل الجبليّ، الصفّيرون الذهبي. بالإضافة عدد من النصوص التي تحتفي بنهر زاله مثل ” اطلالة على نهر زاله، نهر زاله عند مدينة فيتّين”

كما أحتفي الشاعر بأمكنة خارج ألمانيا  مثل ” في ظلال آرارات، نبع نهر البوسنة، ألبينا وغيرها من القصائد..

في  نصوص الشاعر تتجلّى دائما المرأة كظلّ خفيّ بعيد، ينوس بين الأمكنة وعبق التاريخ

يمزج الشاعر تفاصيل الجسد الانثوي بما يتماهى مع المكان، لتبقى خيالات الحبّ وظلال الرغبة وملامح إيروتيكية شفيفة، تصلنا عبر تراسل الحواس وتكسب النص غالباً لعبة إدهاشية ممتعة.

من المعروف أن ترجمة الشعر من أصعب الترجمات إذ يغدو النص المترجم ليس نسخة عن النص الأصلي بل حالة موازية له جمالياً، وهي بالتأكيد مهمّة شاقة تتطلّب فهماً عميقاً للغتين، الألمانية والعربية على حدّ سواء مع مراعاة الجوانب الجمالية والأسلوبية والبنيوية، لكلّ لغة،  لذا يجب أن ينقل المُترجم روح المعنى المقصود وأن يدور في فُلكه وهالته، لا أن يقتحمه مباشرة مع الحفاظ على روح القصيدة وإيقاعها وقافيتها ومكوناتها الجمالية قدر المستطاع.

من هنا تأتي أهمية ترجمة هذا الكتاب من خلال دراية المترجم بالفروق الحقيقية الثقافية بين الألمانية والعربية، وذلك في  ومحاولته استيعاب هذه الفروق وسعيه إلى ايجاد معانٍ أو مُعادل لغوي لبعض الكلمات وخاصة المغرقة في المحليّة التي لا وجود لها في ثقافة أو بيئة معينة.

يبدو ذلك واضحاً من مرونة لغة المترجم وقدرته على تقليب أوجه المعنى وبالتالي “اصطياده” بمهارة للفظة الدلالية التي يؤدي المعنى المطلوب.

أيضا عبر الاشتغال على تكثيف اللغة وإيجاد المعنى الدلالي للصورة الشعرية.

هنا يمكن  أن نسوق بعض الأمثلة  من نصوص متفرقة كدليل على ذلك:

“مثلَ ضبابٍ يحرثُ أرضاً جديدةً تُريدني”

“حين يغلّف نفسهُ بغنجٍ مستهزئ والشهواتُ أكياسٌ مملوءةٌ باللزوجةِ شرابٌ خطيرٌ”

“حين ينتهي غطيط الافتراس المستلذ”

“الأزهار المتساقطة تشبه أصابع جافّة”

“توحّش التفاح، سبقَ أوانه، وأُهلِك في رئات عَسلهِ”

” الصوتُ مكسور والكلمات راقصة”

يسدّ الكتاب فراغاً كبيراً في ساحة الترجمة المعاصرة من الألمانية إلى العربية، لأنّه من المعروف أنه لا يترجم الشعر إلاّ شاعر متمكّن من أدواته الشعرية، والمترجم  الشاعر وحيد نادر يملك من الأدوات والخبرة ما يؤهله لذلك، فهو كما اسلفنا ليس شاعر فقط وإنما أديب فاعل في الحياة الثقافية الألمانية.

في الوقت الحالي ورغم الانفتاح العربي الكبير على الحياة الثقافية الألمانية من خلال التواجد العربي الفعّال في جميع مناحي الحياة في ألمانيا، إلاّ أن للترجمة من وإلى الألمانية لها شجونها ومشكلاتها فيما يتعلّق بالتمويل واختيار الأعمال المُراد ترجمتها ودُور النشر والتسويق وغير ذلك الكثير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*الدكتور وحيد نادر: شاعر ومترجم وأستاذ جامعي سوري، حاصل على عدّة جوائز منها جائزة معهد غوتة للترجمة الاحترافية، ترجم عدداً من الأعمال الأدبية والروائية من الألمانية إلى العربية.