تجديد الفقه الإسلامي بين الضرورة والحاجة

محمد بوبكري **

ضرورة تجديد الفقه الإسلامي

إن التجديد يعني أولا وقبل كل شيء، عدم قدسية التراث، كما يعني عدم الهيمنة، هيمنة الفكر التجديدي، لأن أي تجديد لا يعني الصواب المطلق، أو التعالي عن النقد، فالتجديد يستدعي التجديد دوما، وتجديد اليوم ليس هو تجديد المستقبل، بمعنى لا تناهي التجديد.

ومادام أن التجديد لا يركز على النص نفسه،- القرآن والسنة النبوية- باعتباره فوق كل تجديد، وإنما يلامس فهمنا لهذا النص وقراءاتنا له، فإنه لن يتحقق إلا بمشروعية داخلية، وأخرى خارجية، ذات صبغة موضوعية.

وحين نقول: المشروعية، فلن نجتر سؤال النهضة الذي ظهر في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين حول مشروعية التجديد من عدمه، والذي اصطدم بمواقف من لا يقول بالتجديد والتنوير وقتئذ ١  .

 ومع واقع الأمة الإسلامية اليوم، بغض النظر عن السجال الواقع بين ابناءها ، لاختلاف وجهات نظرها الفكرية، فإن التجديد أضحى اليوم بين ضرورة وحاجة ملحتين، وليس امام مشروعية وحسب، وإن كانت مبررات التجديد وقوة الحاجة اليه، ووضوح الرؤية وتحقق الأبعاد والعوامل المؤسسة له، في تحد لصدود القوى المتمسكة بالتقليد من جهة، وللرد على من يقول بالتجديد المطلق من الحداثيين والهيرمونطيقيين، من جهة ثانية،دون مراعاة لثوابت الأمة ومقدساتها.

غير انه قبل الحديث عن ضرورة التجديد وحاجة الأمة اليه،لابد ان أشير إلى أن القصد من التجديد ليس هو التبديل والاستعاضة، بقدر ما هو إضفاء عناصر جديدة لم تكن موجودة من قبل على كيان كان وأضحى، وأمسى ومازال له وجود، وبهذه الطريقة يكون هذا الكيان قد جدد، سواء أكان التجديد في حذف بعض العناصر أم في إضافة عناصر أخرى جديدة، أم في إعادة ترتيب العناصر نفسها؛ وسواء أكان ذاك التجديد في شكل تناول القضايا وطرحها، أم في مضمون تلك القضايا أم في المنهج الذي يحكم مجمل العناصر للوصول الى مضمونها وشكلها.

إن التجديد لا يعني إحداث كيان جديد محل الكيان السابق القديم، وإذا حصل هذا، فإنه ليس تجديدا وإنما استعاضة واستبدال، والقول بتجديد الفقه الإسلامي شيء، والإتيان بفقه جديد مطلقا شيء آخر.

إن هذه الضرورة – ضرورة تجديد الفقه – أملتها ظروف الواقع وأحوال الناس المتغيرة باستمرار، وإن الاشتغال عليها هو في الحقيقة وجهة الفقيه ليعيش واقعه، ويجيب عن سؤال الموقعية، أين الفقه من مستجدات الواقع؟  ومن العلاقات والقوانين الدولية التي تفرض وجودها على العالم الإسلامي باعتباره انخرط فيها ووافق على جلها؟ ومن العلوم الحقة والإنسانية باعتبارها محور الظاهرة الإنسانية؟

إن الإجابة عن هذا السؤال، هو أحد الأسباب الملزمة للتجديد من لدن الفقيه المتخصص، صاحب الملكة والصنعة، حتى لا يترك الباب للمتطفل بغية النيل منه ومن مقدساته. إن القول بالتجديد والذي هو غايتنا اليوم،والذي ندعو اليه، ليس على منوال شركاءنا الحضاريين في الفكر الغربي والذي أصبح ديدن من تأثر بالفكر المسيحي وبثقافته، وأمسى يدعو إلى نقد النص الديني وتفكيكه، كأي نص بشري يعتريه النقص وعدم الإحاطة والشمول، واللاموضوعية، وتدخل الذاتية…إن هذا القول صار يطاردنا من أجل استرداد واسترجاع الريادة الفكرية الإسلامية.

إن منطلق التجديد يكمن أولا وقبل كل شيء في نقد الذي يُكْرِه الناس على استصحاب فقه القرن الخامس او العاشر ليعيش به زمن القرن الخامس عشر، وهو فقه يناسب زمن من اجتهد ولمن اجتهد، ووفق ماذا اجتهد؛ كما يكمن في نقد كل من يريد نقل النموذج الغربي في تعامله مع النص الديني والمؤسسة الدينية، وفق ظروف وملابسات أملتها ضرورة الواقع ، واستوجبتها قواعد المنطق العقلي، حيث إن النص الديني المسيحي، لم يعد كما أنزل من قبل، بل عملت فيه اليد البشرية التي يعتريها النقص وعدم الكمال، وكما ان المؤسسة الدينية عندهم لم تُحافظ على دورها في تنمية الجانب الروحي، بل أصبحت هي المسيرة للشأن الاجتماعي المحاربة لكل فكر عقلي، بخلاف النص الديني الإسلامي ومؤسسته اللذان يمجدان العقل ونتائجه، باعتبار ان العقل والشريعة أختان من الرضاع، وأن ما يصل اليه العقل يوافقه الشرع، كما قال ابن رشد رحمه الله:”الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له” ٢  .

لاشك أن إعادة طرح  تبريرات بعض النظم الفقهية والمعرفية في زمن الناس هذا يعد داعيا من دواعي التجديد، خصوصا وأن تلك التعليلات والمقاصد قد تجوزت علميا، وواقعا دوليا باعتبار ان العالم الإسلامي أصبح جزءً من هذا العالم الدولي في قوانينه، خصوصا فيما يتعلق بجانب حقوق الإنسان. فموضوع العدة وأحكامِها، وولدِ الزنا وأحكامِه، والعورةِ وأحكامها، والعبدِ وأحكامِه، وديةِ المرأة امام دية الرجل، وولاية المرأة على أولادها، والمصافحةِ وأحكامها، وطهارةِ الإنسان مطلقا، والتوارثِ بين المسلم والكافر، وحليةِ ذبائح أهل الكتاب ٣  وغيرها من النظم الفقهية تستدعي التجديد في تعليلاتها ومبررات أحكامها ومقاصدها التي جعلت عليها.

إن التطور الحاصل اليوم في كل العلوم، كالمعرفيات والماينبغيات، والطبيعيات،والإنسانيات،كل هذا يفرض تلقائيا تجديدا في الفقه وأحكامه.

وليس غريبا ولا عيبا أن نقرأ النص وفق آخر المنجزات المعرفية في هذا العصر، بل إنه من الطبيعي في ظل تطور العلوم في عالمنا اليوم، أن تتطور رؤيتنا وفهمنا وقراءتنا لنصوص الدين، حتى يكون بحق صالحا لكل زمان ومكان، ولن نكون بدعا إن نحن قلنا بالتجديد، فقد عرف تاريخنا الفكري والفقهي تطورا معرفيا مع ابن سينا والفارابي وابن رشد والكندي وابن حزم والباجي، حين طالعوا الإسلام من عقل يوناني من بين تلك العقول التي حملوها معهم لقراءة النص، فكان من الطبيعي حينئذ التوصل الى قراءات واجتهادات فقهية معاصرة لزمنهم، وتتماشى وبيأتهم، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه، وأثروا المكتبة الإسلامية، وأغنوا الحقل المعرفي بفقههم واجتهادهم، لأنه لم يكن هدفهم ليُّ عنق الحقيقة، أو تطويعها لنصوص وفق قراءة واحدة، وإن كانت تلك النصوص تحمل قراءات ودلالات متعددة، أو وضع تلك النصوص في موضع المنفعل لا الفاعل.

الحاجة الى تجديد الفقه

إذا كانت الدوافع الخارجية، من تطور العلوم الحقة، والعلوم الإنسانية، ومدى ارتباط هذه العلوم بالدين، وأثرها في  فهم نصوصه، تشكل ضرورة لتجديد الفقه، فإن الدوافع الداخلية تمثل حاجة ملحة لتجديد هذا الفقه، ليتسنى له مواكبة حياة الناس عامة، وفي كل مناحي حياتهم، لأنه مستمد من نص شامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.  ومن بين هذه الدوافع قولنا : بعالمية هذا الدين، وشموليته، واستيعابه، فضلا عن خلوده، وهذا يستلزم من فقه هذا الدين مواكبة التغيرات الطارئة، والتكيف مع الواقع والتحولات العالمية، ومسايرة الصيرورة الطبيعية والاستثنائية للزمن، وإلا سيبقى في حالة من الرتابة، مما يجعله خلاف مفهوم الخلود والعالمية، والتجديد في حد ذاته حماية لعالميته وخلوده وشموله.

بل إن نصوص الدين نفسه تدعوا إلى التجديد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:”إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها”٤.  وقول الله تعالى: “الم تر الى ربك كيف مد الظل، ولو شاء لجعله ساكنا وجعلنا الشمس عليه دليلا” ٥ قولٌ يدل على أن الكون كله من أصغرهم الى أكبره، في حركة دائمة، والقول بالحركة، قولٌ بالتطور، هكذا أراده خالقه وبارئه ومسيره، ولو شاء لجعله ساكنا.

يجب على الفقيه ان يعيش عصره، أي حركته، عيشا تاما، وأن يحرك فقهه تحريكا موجبا دائباً، مادام هذا الواقع في تغير وحركة دائبة. بمعنى إن الفقيه يجب عليه وجوبا أن يعيش المعاصرة بإيمان وإخلاص، لا أن يبقى مجرد متفرج متحسر، أو معاصرا كارها للمعاصرة، أو مشلولا متغبنا، أو معاصرا لمعاصرة تهمشه ولا يسهم فيها سوى بحسرات، ودموع وآهات، او يبكى تراث الأجداد كالذي يبكي الأطلال. ومادام الإسلام دين البشرية جمعاء، على مر الدهور، فإن فقهه ولاشك فقه حركة، لا فقه سكون، فحتى عامنا الهجري عام متحرك، وعليه؛ فإن فقهنا يجب أن يأخذ بعين الاعتبار التغيرات، والتطور الإنساني، هذا التطور الذي يستحيل عقلا أن يخرج عن إرادة البارئ وقصده جل وعلا. ثم إن الإسلام ليس دين قبيلة حتى تحجر على الفقه. إن إخلاصنا لفقه أسلافنا لا يعني أن نقف حيث وقف بهم الأجل، بل يجب أن نواصل السير والتجديد والتغيير، سيرا على الصراط المستقيم، الذي ندعوا الله في كل صلاة أن يهدينا إليه، والهداية حركة لا تنقطع، وإنما هي سير حثيث وتقدم مفتوح، لا رِتْج مسدود.

إن إخضاع الواقع للنص وفق قراءة موضوعية منطقية أمر لازم، وإن الأحكام الفقهية الجاهزة والمجردة عن الواقع تبقى أحكاما نظرية تجريدية في الغالب. إن الناس اليوم بحاجة الى فقه التغيير لا فقه التبرير، ولأن العلاقة بين النص والواقع، علاقة جدلية، إذ أي تغير في الواقع يستدعي تغيرا في قراءة النص، مادام انه قطعي الثبوت ظني الدلالة، وذلك كله لضبط حركة الحياة واستيعابها وحمايتها من الانزلاق، وليس وضع صيغ نهائية جاهزة، لأنماط وإشكال ممارسة الحياة.

إن فك الوصلة بين الصورة التاريخية لمفهوم النص، وبين نقاوة النص نفسه، أمر ليس سهلا، وإلا سيبقى الإفراط في الأخذ بحرفية النص أمرا سائدا ومهيمنا، أو القول بعقلنة هذا النص دون شرط ولا قيد، وفي كلتا الحالتين يبقى هذا الفقه منتقدا من المدرسة العقلانية المفرطة، ومن المدرسة التراثية الجامدة. إن هذه الحال التي يعرفها الفقه الإسلامي، والتي أصبحت تشكل ظاهرة تحتاج الى انطلاقة مشروع التجديد للخروج من هذا الوضع الفكري المتأزم، وإيجاد حلول على الخط الديني، حلولٍ تتجاوز النمطيات المكرورة- التي وجدت فيما قبل، دون تنكر لها- وحلول في إطار الشرعية للنص مهما سما العقل، وفي ظل منهج التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير، وهوالنموذج الذي يرد للفقه الإسلامي صفاءه واحترامه للإنسان، وحركيته التي دفعته زمن الوحي، وجعلته يجذب الناساليه.

بهذا المنهج التجديدي المرتكز على المرونة، والمنطلق من الحوار وأدبياته، يمكن الوصول الى فقه حضاري مقنع غير موظف، قابض على طرفي الحبل، الوفاء للإرث، ومواكبة التجديد والتغيير الذي تفرضهما حركة الزمن .

تجاوز فكر المؤامرة

وليكتب لهذا الفقه نجاح التجديد، ويتحقق على ارض الواقع، لابد له من فضاء يمكنه من الحركة، ومن أهم فضاءاته حرية التعبير دون تعتيم أو تدليس. بمعنى أن التجديد يجب أن يتجاوز فكرة المؤامرة، التي يقول بها الماسكون بالأسلوب القديم، والتي بها يبررون معارضتهم، ويحاولون إلجام الفكر التجديدي، بدعوى الحفاظ على الهوية من الذوبان، والتفكك، مع ان هاجس الهوية، والخوف عليها من الآخر، يجب أن يكون محفزا لكل المشتغلين في الحقل الديني، والمتخصصين في مجالاته وعلومه، قصد الدفاع عنها وصيانتها ، بتجديد الفهم للنصوص، المتوافقة واحتياجات الإنسان المسلم، الذي اضحى واقعه امتدادا لواقع تجاوز حدود الجغرافيا، في عالم ممدود لا محدود.

إن النص الديني الذي هو قطب الرحى،في استنباط الأحكام، جاء ليخاطب الإنسان، وإنسان اليوم ليس هو إنسان أمس ولا إنسان غدٍ، وبالتالي فإن هناك تفاعلا بين المرسِل باعتباره صاحب النص،وبين المرسَل اليه باعتباره متلق لهذا النص، الذي يتجدد فهمه بتجدد الإنسان، الذي أراده الله أن يتجدد، تبعا لسنة الله في كونه وخلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا.بمعنى آخر:إن هناك تفاعلا بين الإلهي والإنساني من دون منازعة، والمعادلة منضبطة وواضحة.إننا بحاجة الى فكر صناعي، لا إلى فكر زراعي، لأن هذا الفكر يعد جامدا تزرع فيه الفكرة، فيقبلها دون نقد وتمحيص، ودون نظر وتحليل.

————

** باحث في التراث والفكر الإسلامي ، مقيم بألمانيا

١-سؤال النهضة الذي دعا اليه الأفغاني ومن سار على نهجه،ووجه من لدن الفكر التقليدي الرافض لكل تجديد.

٢-فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال،لأبي الوليد بن رشد القرطبي ت٥٩٥هـ

٣-وغيرها من المواضيع التي تحتاج الى نظر بحسب تغير الزمان،  والحال

٤-رواه ابوداود وغيره ،وصححه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في المدخل، والحافظ ابن حجر،وقال فيه العراقي سنده صحيح

٥-سورة الفرقان، أية ٤٥-٤٦

.