الموجة الشعبوية الثانية

سنوات التعصب الغربي

الدليل ـ برلين

لم تعد الشعبوية اليوم مجرد «تهمة» يتقاذفها رجال السياسة في جل الحوارات والمناظرات استنقاصا من قدرة خصومهم على الحجاج العلمي والمنطقي، فبعد طلاق بريطانيا التاريخي من الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية، أصبح للشعبوية مفهوم مستحدث يعادل «الإستراتيجيه» الفعالة في حشد التأييد والمناصرة.

إن في الأمر دعوة ملحة لمراجعة المعجم السياسي بالكامل، إذ يبدو أن إيديولوجيا التخويف واللعب على عاطفة الجماهير سائرة لا محالة نحو مزيد الازدهار، كما يبدو أن نجاحاتها لن تتوقف عند البريكسيت البريطاني ولا عند الرئيس الأشقر ترامب. ففي المثال البريطاني وجدت دعوات الخروج من الاتحاد الأوروبي قاعدة كبيرة من المؤيدين، وحتى من المتعصبين المتطرفين الذين آثروا الانغلاق على أنفسهم ورفضوا ما اعتبروه «وصاية» أوروبا عليهم اقتصاديا وسياسيا. وقد تزعمهم حينها النائب بالبرلمان ورئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون الذي وصف استفتاء الخروج بأنه  «انتفاضة شعبية كبيرة ضد نظام بيروقراطي قديم خانق أصبح تشبثه بالديمقراطية غير واضح».

جونسون نفسه، ابن العائلة المهاجرة، أقنع أنصار البريكسيت بأن سياسة الحدود المغلقة ستكون مجدية وبأنها ستمنح لبريطانيا فرصة قيادة أوروبا من خارج الاتحاد!

إنه بلا شك خطاب شعبوي بامتياز حرك الكبرياء البريطاني الدفين وحلم الزعامة الأبدي، ولعب على وتر الولاء المتعصب لبريطانيا فكان أن أجج نار التطرف التي أسفرت عن اغتيال النائبة المناهضة للخروج جو كوكس.

أما في الولايات المتحدة فكان خطاب الدعاية للرئيس الجمهوري دونالد ترامب موضع انتقاد دائم من الديمقراطيين ومن مختلف الأوساط السياسية والإعلامية المحلية والعالمية، حتى أن رجل المال والأعمال أضحى محلا للسخرية والتندر، لكن أحدا لم يدرك أن خطابه كان أقرب إلى وجدان الأمريكي البسيط وأكثر إلماما بمشاغله اليومية وبمخاوفه المبررة وغير المبررة، علاوة على أن ترامب قدم نفسه باعتباره نموذجًا للرجل الأمريكي المتفوق ثروة وسلطة.

والآن في المجر وبولندا وبلغاريا نرى صدى الرسائل الشعبوية من اضطهاد للمهاجرين وصلت للعنف والسجن والضرب حتى القتل.

إن الشعبوي يتبنى مخاوف المواطن البسيط ويسطر على ضوئها البرامج والوعود الانتخابية فلا يكلف نفسه عناء البحث والتخطيط، إنه نوع من خطابات الطمأنة والانخراط في الفكر الجماهيري السطحي، ولذلك يراه الكثيرون أقرب إلى همومهم من خطاب النخبة المؤسس بصورة أكبر على المعطى العلمي والواقعي.

وفي المقابل أفصح وعي المواطن الغربي أخيرا عن فقر في الرؤى والأفكار وعن عجز في الاستدلال والتحليل، وأصبح فريسة سهلة لكل خطاب شعبوي يدغدغ عواطف الانغلاق والانفصال والتقوقع، ويبعث على الإحساس بالأمان إزاء عولمة الفوضى والإرهاب.

إن الشعبويين ينتقون جيدا فئة الناخبين التي تذعن لدعايتهم الدغمائية وتسلم بها وهي الفئة الهشة ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، والتي يتملكها دائما الإحساس بالاستضعاف فتجنح للبحث عن أمنها المالي والجسدي.

ففي ألمانيا آلت سياسة المستشارة أنجيلا ميركل بخصوص استقبال اللاجئين إلى تدهور شعبية الأحزاب الحاكمة (حزب ميركل المسيحي الديمقراطي والحزب الاشتراكي الديمقراطي) حيث استغل اليمين المتطرف مشاعر المعادين للهجرة لهزيمة الجهات الحكومية في الانتخابات المحلية.

وقد وجدت الدولة نفسها أمام معضلة مجتمعية وسياسية خصوصا بعد استمرار المستشارة ميركل في سياسة استقدام المهاجرين والتي شكلت من وجهة نظر حزب البديل، والمتطرفين اليمينيين عبئا على المجتمع من الناحية الاقتصادية والأيديولوجية حيث يشكل ازدياد عدد المسلمين في ألمانيا خطرا على نسيج المجتمع. بالإضافة إلى التبعات المالية التي ارتبطت بتوطين المهاجرين واندماجهم. وبرزت المطالبة بإيقاف الهجرة، وطرد المهاجرين، وعدم قبول اندماجهم في المجتمع، وازدادت المطالبة بحظر النشاطات الدعوية، وإغلاق المساجد ودور تعليم القرآن، وحظر النقاب، وغير ذلك من الإجراءات القمعية للمسلمين، وصارت الأحزاب الكبيرة الحاكمة حاليا بموجب الائتلاف الكبير مطالبة باتخاذ إجراءات صارمة قُبيل الانتخابات القادمة.

ولذلك نلاحظ التوسع الإعلامي المرافق لعملية الحظر وإظهار الصرامة والحزم في عملية المداهمة والتأكيد على مصادرة الأملاك والكتب والمصاحف ومنع طباعتها واعتقال شباب الجمعيات وإبراز اتصالهم بتنظيم الدولة، والتأكيد على محاربة (الإرهاب) كما جاء في تصريحات: “نريد أن نقول عبر الرسالة التي نبعث بها، أن لا مكان في ألمانيا للإسلاميين”. “لا نريد الإرهاب في ألمانيا، لا  نريد وجود دعاية للإرهاب في ألمانيا أو تصديره من ألمانيا”.

وهذه الرسالة موجهة في الوقت نفسه إلى أصحاب الميول اليمينية لتشعرهم أن الدولة (أي الأحزاب الحاكمة) قادرة على اتخاذ إجراءات صارمة توافق تطلعات الشعب إلى الأمن والاستقرار المجتمعي والديني وذلك عبر محاربتها للدعوة إلى الإسلام على كافة الأصعدة ومختلف التوجهات.

وعلى شاكلة ألمانيا تلقى شعارات الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة تجاوبا لدى الكثير من الفرنسيين، حتى أن الخوف بدأ يتعاظم من تكرار مشهد الصعود الدرامي لترامب على عتبات الإليزيه. وفي هولندا وبلجيكا والدنمرك وإيطاليا ليس الحال بأفضل.

كل هذا يجري وسط دعوات شرقية وغربية متكررة داخل الاتحاد بالخروج عن بيت الطاعة الأوروبي.

.