إسرائيل .. و”مزاعم الغرب بالتفوق الأخلاقي”

الدليل ـ برلين

إن القضية التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا على إسرائيل في محكمة العدل الدولية، تتهمها فيها بـ”ارتكاب إبادة جماعية” ضد الفلسطينيين في غزة، تتعلق في جوهرها بشيء أوسع من تفاصيل الهجوم الإسرائيلي على غزة، وهو كشف الفارق بين الواقع الفلسطيني وكيف تصفه القوى السياسية الغربية المهيمنة على العالم.

وتتباين مواقف الرأي العام الشعبي في الدول الغربية، المطالب بوقف فوري لإطلاق النار، وبين موقف حكومات تلك الدول.

فمنذ أسابيع، امتد الغضب من الأحداث في غزة إلى الشوارع في جميع أنحاء أوروبا. ومع ذلك، فقد تم تجاهل هذا الغضب، أو رفضه، أو حظره، أو التشهير به من قبل القادة السياسيين.

إن التأييد الشعبي لوقف إطلاق النار، والذي يبلغ الآن أكثر من 70 في المئة في بريطانيا مثلاً، لا ينعكس في مواقف الحكومة أو المعارضة”.

وعلى الصعيد العالمي، لم تترجم إدانة العنف من جانب منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة وحتى البابا (بابا الفاتيكان) إلى إجراءات ذات معنى من جانب القادة السياسيين. وعرقلت الولايات المتحدة قرارا للأمم المتحدة يدعو إلى وقف إطلاق النار.

إن كل هذا يعكس ما قيل لمؤيدي فلسطين لسنوات: “إن موقفكم هامشي. فهو لا يقوم على دليل أو أخلاقيات، بل على التحيز والتطرف ومؤخرا على ما يسمى ‘اليقظة’. وبعبارة أخرى، فإن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني معقد، ومن الأفضل تركه للكبار.

وكان هذا الموقف يرتكز دائما على حقيقة أنه حتى لو كان الدعم لفلسطين شعبيا، فإنه لم يكن قويا. ونادرا ما انتقل من الشوارع إلى قاعات السلطة، وعندما كان يحدث ذلك، كان من الممكن دائما حجب أو تشتيت مثل هذه المشاعر.

لكن تقديم القضية أمام محكمة العدل الدولية “تحدى هذه الصورة، سواء في المظهر أو في الجوهر. من المهم سماع الأشياء التي لم تؤخذ على محمل الجد بما فيه الكفاية، والتي وُضحت في المحكمة بالشكل الذي يتناسب مع خطورتها.

ومن المهم أن تكون هذه الادعاءات مرتبطة باتفاقيات جنيف وقانون حقوق الإنسان. ومن المهم أن يتم التحدث بها في إطار رسمي وقانوني، ينطق بها المحامون ويستمع إليها القضاة.

وتُظهِر قضية محكمة العدل الدولية كيف أن المنطق الغربي بدأ يضعف، وأن قدرته على الإقناع تتضاءل في عالم متعدد الأقطاب، كما أن حقيقة أن جنوب أفريقيا هي التي رفعت القضية لا تغيب عن بال أحد، لأنها رمز لويلات الاستعمار والاستيطان والفصل العنصري والظلم واسع النطاق، لذلك ليس من المستغرب أن يأتي الدعم المُعرب عنه لجنوب أفريقيا بالكامل من بلدان في الجنوب العالمي.

إن القضية ترمز إلى مواجهة أوسع نطاقاً، إذ يبدو أنها تتساءل، من داخل نفس المؤسسات التي أنشأتها الدول الغربية، عما إذا كانت البنية التحتية لحقوق الإنسان هذه حقيقية، أو أنها مجرد مسرح يقام لخدمة نظام طبقي دولي.

القضية – ومن ورائها الصراع في غزة – جعل الحلفاء الغربيين في موقف يضطرهم لتقويض أنظمتهم ومؤسساتهم الحقوقية أو تجاهلها، ما يؤدي إلى فقدان مصداقيتهم.

وعندما تكون على الجانب المعارض للأمين العام للأمم المتحدة، والعديد من منظمات حقوق الإنسان، وتعترض على تقديم طلب إلى محكمة عالمية قمت بالانضمام إلى عضويتها – وفي حالة الولايات المتحدة وبريطانيا، المحكمة التي أنشأتها أنت – فأنت حينئذ تقوم بهدم بيتك بنفس الأدوات التي بنيته بها.

وقدمت جنوب أفريقيا ملفاً قانونياً يتألف من 84 صفحة، يقول إن أفعال إسرائيل “تحمل طابع الإبادة لأنها تهدف إلى الدمار بجزء كبير” من الفلسطينيين في غزة.

بحسب الحجج المُقدّمة في الملف، فإن أعمال الإبادة المذكورة تشمل قتل الفلسطينيين، والتسبُّب بضرر جسدي ونفسي خطير، وتعمُّد خلق ظروف تهدف إلى “تحقيق تدميرهم الجسدي كمجموعة”. كذلك يرد في الملف أن هناك تصريحات علنية لمسؤولين إسرائيليين تعّبر عن نية بالإبادة.

وعلى الرغم من أن محكمة العدل الدولية لا تمتلك أدوات تنفيذية لتنفيذ مقرراتها عمليا، إلا أن قراراتها ذات أهمية كبيرة ليس على الصعيد القانوني فقط، بل أيضا على الصعيد الأخلاقي السياسي؛ لأنه يضفي موقفا أخلاقيا قانونيا على فعل ما، أو ينزع عنه هاتين الصفتين، وهذا أمر مهم خصوصا في الدول الديمقراطية ـ الليبرالية – حيث المعايير الإنسانية مثل حقوق الإنسان والحريات والعنف والقتل تلعب دورا هاما في رسم السياسات.

ومن هنا، فإن قرار المحكمة – في حال اتخذ – بأن إسرائيل ترتكب أعمال إبادة جماعية في قطاع غزة له أهمية كبرى؛ لأنه يلحق ضررا بسمعة جيش الاحتلال عالميا كما ذكرت صحيفة الغارديان؛ ولأنه سيفتح الباب أمام المحكمة الجنائية الدولية للنظر في اتخاذ خطوات ضد كبار المسؤولين الإسرائيليين.

كما أن أهمية القرار لا تقتصر على وقف هذه الإبادة فحسب، بل الأهم أنه يثبت قانونيا أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، ما يعني إعادة فتح ملف السلوك الإسرائيلي تجاه مجمل فلسطين أمام المجتمع الدولي.

وقد يشكل قرار المحكمة في حال أثبت الإبادة الجماعية قاعدة لفرض عقوبات على إسرائيل وعلى شركات إسرائيلية.

وفي حال رفضت المحكمة اتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، فإنها على الأقل ستطالب بوقف فوري للحرب وبإدخال المساعدات، وفي هذه الحالة ثمة اعتراف قانوني بأن إسرائيل انتهكت القوانين الدولية، وهذا أمر له أهميته في المحاكم الدولية بخلاف مجلس الأمن؛ حيث الاعتبارات السياسية هي الحاكمة.

ليس معروفا إلى الآن في أي مسار ستذهب المحكمة الدولية في ظل الضغوط الغربية، خصوصا الأمريكية عليها لمنعها من اتهام إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية من جهة، وفي ظل ضغط مجموعة كبيرة من الدول التي تضغط باتجاه إدانة إسرائيل من جهة أخرى.