ماكرون وطبول الحرب في أوروبا
د. أمير حمد
من مهادنة روسيا بشكل مهين إلى التلويح بمحاربتها في أوكرانيا، ما زالت تقلبات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون محيرة لخصومه وحلفائه على السواء، وآخرها دعوته لإرسال قوات أوروبية لأوكرانيا الأمر الذي جعل موقف ماكرون من روسيا يقابل بالقلق من قبل حلفائه.
ولا ينسى العالم أبداً مشهد ماكرون وهو جالس في نهاية طاولة طويلة أمام نظيره الروسي فلاديمير بوتين في مشهد مهين يستجديه فيه ماكرون ألا يغزو أوكرانيا، وظل الرئيس الفرنسي على تواصل دائم مع بوتين حتى بعد بداية الغزو، كانت سياسة فرنسا ضعيفة ضد روسيا ودعمها العسكري لأوكرانيا ضعيفاً وبطيئاً.
ولكن موقف ماكرون من روسيا انقلب تماماً ووصل لدعوته إلى إرسال قوات لأوكرانيا، الأمر الذي قد يؤدي لإشعال حرب بين روسيا وأوروبا.
ورغم إعلان فرنسا أن تصريحات ماكرون بخصوص نشر عسكريين في كييف فهم بصورة خاطئة، وأن المقصود الدفاع السيبراني وإنتاج الأسلحة في أوكرانيا، أعاد ماكرون هذه الدعوات، حيث نشرت صحيفة “لوباريزيان” مقابلة مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أكد فيها مجدداً أنه قد يكون من الضروري “في مرحلة ما” القيام بعمليات عسكرية برية من طرف الغربيين لدعم أوكرانيا في “مواجهة القوات الروسية”. ورفض ماكرون استبعاد فكرة إرسال قوات برية إلى أوكرانيا.
وقال ماكرون، في المقابلة التي أجراها بعد عودته من برلين حيث التقى الزعيمين الألماني والبولندي، أنه “ربما في مرحلة ما – أنا لا أريد ذلك، ولن آخذ زمام المبادرة – يجب أن تكون هناك عمليات على الأرض، أياً يكن شكلها، لمواجهة القوات الروسية”. وأضاف: “قوة فرنسا تتمثل في أننا نستطيع فعل ذلك”.
بوتين يلوح باستخدام النووي في أي حرب بين روسيا وأوروبا وماكرون يستهزئ بقوة موسكو
وعلّق ماكرون على قوّة روسيا، قائلاً: “يجب ألا نستسلم للترهيب، نحن لا نواجه قوّة عظمى. روسيا قوّة متوسّطة تمتلك أسلحة نوويّة؛ لكن ناتجها المحلّي الإجمالي أقلّ بكثير من الناتج المحلّي الإجمالي للأوروبيين، وأقلّ من الناتج المحلّي الإجمالي لألمانيا وفرنسا”.
وقد أثارت تصريحاته المتكررة حول هذا الموضوع مشكلات مع حلفاء باريس، خصوصاً ألمانيا، وقوبلت برفض شبه جماعي من المعارضة في فرنسا.
فمن واشنطن إلى برلين ولندن، رفض جميع حلفاء كييف تصريح ماكرون الذي أعاد إلى الواجهة السؤال الشائك عن وجود قوات أجنبية على الأراضي الأوكرانية، الأمر الذي قد يفتح الباب لإشعال حرب بين روسيا وأوروبا.
وقابلت روسيا ذلك بتصعيد، حيث هدد بوتين بحرب نووية في خطابه السنوي للأمة، كما سبق أن أعلنت روسيا، أنها استهدفت مجموعة من المقاتلين الفرنسيين في ضربة على مدينة خاركيف بشرق أوكرانيا.
فرنسا حليف خفي لروسيا داخل الناتو منذ عقود
ولسنوات كانت فرنسا بمثابة حليف خفي لروسيا داخل الناتو وأوروبا، وساهمت في تحويل اهتمام أوروبا من الخطر الروسي الماثل إلى التركيز على المشكلات في الشرق الأوسط، وتسعير العداء للعرب والمسلمين، ويمكن إرجاع ذلك لعوامل كثيرة مرتبطة بأجندة باريس وماكرون الخاصة، حيث كانت فرنسا بموقعها الجغرافي في غرب أوروبا بمأمن تاريخياً عن التهديد الروسي، عكس ألمانيا ودول شرق أوروبا، بل كانت روسيا حليفاً مهماً لفرنسا في حروب عدة، أشهرها الحرب العالمية الأولى، كما احتفظت باريس بعلاقة خاصة مع الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة التي انسحبت أثناءها فرنسا من الجناح العسكري للناتو.
ولعبت فرنسا وألمانيا دوراً في إضعاف رد فعل الغرب على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، والأمر الذي يعتقد أنه شجع بوتين على غزة أوكرانيا في فبراير/شباط 2022.
وبعد غزو بوتين لأوكرانيا، ظلت موقف ماكرون من روسيا مهادناً لحد كبير، وكان حريصاً على التواصل مع بوتين، وانتقدت أوكرانيا ماكرون بشدة عندما دعا إلى عدم إذلال روسيا، كما سبق أن قال الرئيس إلى أن انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي ما زال “بعيداً جداً”
فما الذي أدى إلى تغير موقف ماكرون من روسيا وتحول الرئيس الفرنسي من حمائم أوروبا إلى صقورها ومن مهادن إلى داعية للحرب مع روسيا.
هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه في مختلف أنحاء أوروبا، مع استعداد الرئيس الفرنسي لدوره الجديد باعتباره المقاوم الرئيسي في القارة لفلاديمير بوتين، حسبما ورد في تقرير نشر بموقع هيئة الإذاعة البريطانية “BBC”
ترحيب من دول أوروبا الشرقية بـ”موقف ماكرون من روسيا” ورفض من ألمانيا
وبينما ترحب بعض دول أوروبا الشرقية القريبة من روسيا – دول البلطيق وبولندا – بتحول موقف ماكرون من روسيا، يشعر آخرون ــ وأبرزهم ألمانيا المستشار أولاف شولتز ــ بالذعر إزاء هذه الروح الفرنسية الجديدة.
فالجميع مرتبكون وغير متأكدين. ما مدى صدق خط ماكرون الجديد؟.
فهل رفضه الأخير استبعاد إرسال قوات إلى أوكرانيا مجرد مفاجأة أخرى من مفاجآته ونموذج لاندفاعاته الدبلوماسية؟
وإلى أي مدى يعتبر موقفه الجديد سياسياً بحتاً؟
وفي فبراير/شباط الماضي، جدد المستشار الألماني أولاف شولتز استبعاده للاستعانة بجنود ألمان في أوكرانيا، وذلك في تعليق غير مباشر على تصريحات ماكرون. وتخشى ألمانيا أنه في حال اندلاع حرب بين روسيا وأوروبا أن تكون هي أكبر من يدفع الثمن.
ماكرون يحاول إحراج اليمين المتطرف في بلاده عبر هذه الدعوة
تقترب الانتخابات الأوروبية، ويبدو أن اليمين المتشدد بزعامة مارين لوبان وجوردان بارديلا مستعد لهزيمة الماكرونيين.
فهل الهدف من تغير موقف ماكرون من روسيا هو خلق خط صدع بين حزبه والمعارضة، وإظهار الفارق بين موقفه الحاد من روسيا مقارنة بموقف زعيمة اليمين المتطرف ماريان لوبان، والتي توصف بأنها كانت متواطئة مع بوتين في الماضي.
وفي مقابلة مباشرة على التلفزيون الفرنسي اعترف الرئيس ضمناً بأن هذه الأسئلة الحاسمة تم طرحها.
ولم يكن الرئيس الفرنسي محرجاً على الإطلاق من “تحوله” من الحمائم إلى الصقور. وبرر ذلك، قائلاً إنه فقط بعد استنفاد كل الجهود المبذولة للتواصل مع الخصم، يمكن القول بشكل قاطع إن هذا الخصم (روسيا) قد تجاوز الحدود.
علاوة على ذلك – وهو الجزء الثاني من تبريره الذاتي – قال إن الروس قد دفعوا الآن عدوانهم إلى مستوى جديد تماماً.
وقال إن الكرملين أصبح في الأشهر الأخيرة “أكثر تشدداً بشكل ملحوظ” – مما وضع الاقتصاد الروسي في حالة حرب دائمة؛ وتكثيف قمع المعارضة الداخلية؛ تصاعد الهجمات الإلكترونية على فرنسا ودول أخرى.
ويرى أن أوكرانيا تبدو محاصرة على نحو متزايد، ولم تعد الولايات المتحدة يمكن الاعتماد عليها كحليف، ولذا فإن أوروبا تدخل عالماً جديداً، وصفه بأنه “عالم حيث يحدث بالفعل ما كنا نظن أنه لا يمكن تصوره”.
ولهذا السبب، وفقاً لمبدأ ماكرون الجديد، كانت فرنسا وأوروبا في حاجة إلى الاستعداد لقفزة عقلية من اليقينيات المريحة للعصر المحتضر إلى الحقائق القاسية للعصر الجديد.
وبلهجة تشيرشلية متعمّدة، حسب وصف الموقع البريطاني، يعتقد ماكرون أنه من أجل الحفاظ على السلام، يتعين على أوروبا أن تكون مستعدة للحرب.
ولكن كما هي الحال دائماً مع الرئيس الفرنسي، هناك أيضاً سؤال يطرحه موقف ماكرون من روسيا: ربما يكون قدم حجاً قوية ولكن هل هي مقنعة؟
لأن الصعوبة الدائمة التي يواجهها رئيس الدولة الفرنسية لا تكمن في الافتقار إلى القدرات العقلية والبلاغية ـ بل في القدرة على تحويل هذه العبقرية (البلاغية) إلى موهبة مختلفة: ألا وهي القيادة. القدرة على جعل الآخرين يتبعونهم (في إشارة إلى أن كثيراً من دعوات ماكرون الصارخة لم تلقى آذاناً مصغية في أوروبا).
وفيما يتعلق بـ”موقف ماكرون من روسيا”، ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كان الآخرون سوف يصطفون في الصف وراء ماكرون، حسب تقرير “بي بي سي”.
بعد تغير موقف ماكرون من روسيا، برلين تتهم باريس بالنفاق
العلامة الأكثر وضوحاً هي الصدع الذي يفصل بين الزعيم الفرنسي والرجل الذي من المفترض أن يكون أقرب حليف له في أوروبا، الألماني أولاف شولتز.
وعلى النمط الفرنسي الألماني التقليدي، يقوم كل من الجانبين الآن بإصلاح الأمور علناً والتأكيد على الجبهة المشتركة الإلزامية بين الجانبين. ومن هنا جاءت زيارة ماكرون إلى برلين.
ولكن لا يمكن لأي قدر من العناق أن يخفي الخلاف الأساسي: اتهام فرنسا لألمانيا بالتباطؤ في تقديم المساعدة لأوكرانيا، والعمى المتعمد في التشبث بدوام المظلة الأمنية الأمريكية.
في المقابل، تتهم ألمانيا فرنسا بالعدوانية المتهورة، والنفاق (حيث إن شحنات الأسلحة التي تسلّمها باريس في الواقع متأخرة كثيراً عن تسليمات ألمانيا)، إضافة إلى استعراضية ماكرون، وفقاً لـ”بي بي سي”.
الرأي العام الفرنسي لا يؤيد دعوته ووزير دفاعه حاول التقليل منها
لكن على المستوى الداخلي الفرنسي أيضاً، فإن الدعم الذي يحظى موقف ماكرون من روسيا وأوكرانيا أقل مما يتصور.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن أغلبية كبيرة ـ نحو 68% ـ تعارض موقفه بشأن إرسال قوات غربية لأوكرانيا.
وفي حين أن معظم الناس في فرنسا يعارضون روسيا بشكل واضح، فإن شركة استطلاعات الرأي “إيفوب” تشير إلى “تآكل تدريجي في الدعم للقضية الأوكرانية”.
ويقول تقرير بي بي سي: “إنه إذا كان هناك بالفعل هدف انتخابي لخطه المتشدد الجديد في التعامل مع موسكو ــ وهو فضح غموض اليمين المتطرف تجاه الكرملين، ـ فلا يبدو أن هذا التوجه ناجح. وتظهر استطلاعات الرأي أن الدعم لحزب التجمع الوطني بزعامة لوبان يزداد قوة”.
وحتى وزير دفاعه سيباستيان لوكورنو، حاول لملمة آثار تصريحاته، إذ قال أمام نواب لجنة الدفاع الوطني والقوات المسلحة، إنه “ليس لدى فرنسا أي نية لإرسال جنود إلى أوكرانيا لشن حرب ضد روسيا”.
ومن خلال تحوله إلى أبرز مناهضي استرضاء روسيا في أوروبا، يستكشف الرئيس ماكرون مرة أخرى أرضية جديدة. وهو يتولى زمام المبادرة، ويدفع الأوروبيين إلى التفكير ملياً في أمنهم، وفي التضحيات التي قد تصبح ضرورية قريباً.
ولكن تكمن الصعوبة التي يواجهها في أن الكثير من الناس يتفاعلون معه بشكل سيئ، وهم يشعرون بالاستياء من إيمانه بنفسه، ويشعرون أنه يخلط بسهولة بين ما هو مناسب لأوروبا والعالم، وبين ما هو مناسب لفرنسا ـ أو لنفسه.
.