مأزق القيم الغربية في حرب غزة

أدهم العسال

“إن نفاق الغرب مذهل، فهو يدّعي تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومع ذلك يدعم باستمرار الأنظمة الوحشية عندما يناسب ذلك مصالحه الاقتصادية والاستراتيجية”. نعوم تشومسكي.

تشكل الحرب على غزة اليوم تحدياً عميقاً للديمقراطيات الغربية؛ إذ تسلط مجازر الاحتلال الإسرائيلي الأخيرة الضوء على المعضلات المعقدة التي يواجهها العالم عند الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، ما يثير الشكوك حول سلامة حرية التعبير في هذه الدول. فما بدأت الحرب في تلك البقعة الجغرافية الصغيرة حتى ظهرت المفارقات والتناقضات التي عرت التعامل الغربي مع القضايا الإنسانية بالغرب، ما وضع الغرب بكل إنتاجاته القيمية التي يزعمها أمام تحديات حقيقية.

يظل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين الذي طال أمده في عالمنا الحديث،  نقطة محورية للخلاف الدولي والقلق الإنساني. لطالما تغنت أوروبا وأمريكا الشمالية بالتزامها بحرية التعبير باعتبارها حجر الزاوية في المجتمع الديمقراطي، لكن لطالما أيضاً سقط هذا الالتزام عندما يتقاطع مع المشهد السياسي في الشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق الأمر بفلسطين، حيث يصبح التضارب في المبادئ واضحاً وخصوصاً حالياً عندما يواجه الأفراد بل والجماعات ردود فعل عنيفة في دول الأنوار تصل للأذى المادي بكل أشكاله بسبب انتقاد السياسات الإسرائيلية أو التعبير عن التضامن مع الفلسطينيين.

سلط الصراع الدائر بين إسرائيل وحماس الضوء مرة أخرى على موقف الأنظمة الغربية، مواقف مزدوجة ومزعجة تظهر النفاق الذي يعمهم، ففي الوقت الذي تدافع فيه الدول الغربية علناً عن حقوق الإنسان والقانون الدولي، فإن ردود فعلها على حرب غزة تكشف عن واقع مختلف، واقع يتسم بالمصالح السياسية والتعاطف الانتقائي والتحالفات الاستراتيجية.

وإن أحد أكثر الأمثلة الصارخة على الازدواجية الغربية هو التناقض الصارخ في الردود على الضحايا المدنيين، إذ ترى ذلك جلياً، في زحف ترسانة عسكرية عملاقة على أشلاء الأطفال والناس الأبرياء الفلسطينيين في غزة، فإذا الحكومات الغربية عبر بيانات معتدلة تدعو إلى ضبط النفس وتعرب عن قلقها، ومع ذلك، عندما يتضرر المدنيون الإسرائيليون من الهجمات المقاومة، تسارع الحكومات نفسها إلى إدانة العنف بشكل لا لبس فيه وتؤكد على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس. ويؤكد هذا التناقض في اللهجة والإلحاح على ازدواجية المعايير التي تقوض مصداقية الالتزامات الغربية بحقوق الإنسان.

تتأثر علاقة الغرب بإسرائيل بشكل كبير بالمصالح السياسية والاستراتيجية، فإسرائيل حليف رئيسي في منطقة مضطربة، وتوفر تعاوناً استخباراتياً وعسكرياً قيّماً، وغالباً ما يدفع هذا التحالف الدول الغربية إلى إعطاء الأولوية لشراكتها الاستراتيجية مع إسرائيل على حساب الدعوة إلى العدالة والمساءلة في الصراع، ونتيجة لذلك، تستمر إجراءات مثل مبيعات الأسلحة والمساعدات العسكرية لإسرائيل دون توقف، على الرغم من الأدلة المتزايدة على جرائم الحرب المحتملة وانتهاكات القانون الدولي في غزة.

وتلعب وسائل الإعلام الغربية أيضاً دوراً مهماً في تشكيل التصور العام للصراع، إذ تميل التغطية الإعلامية إلى تسليط الضوء على المعاناة الإسرائيلية وتأطير الرواية من حيث احتياجات إسرائيل الأمنية، بينما تحظى وجهات النظر الفلسطينية والأزمة الإنسانية في غزة بعدم الاهتمام، وتؤثر هذه التغطية الانتقائية على الرأي العام، ما يسهل على الحكومات تبرير سياساتها وتجنب ردود الفعل العنيفة.

وغالباً ما يتم التقليل من أهمية الأزمة الإنسانية في غزة أو يتم تأطيرها على أنها نتيجة لأفعال حماس، مع تجاهل السياق الأوسع للحصار الإسرائيلي والعمليات العسكرية التي دمرت البنية التحتية والاقتصاد في المنطقة. وفي حين تتعهد الدول الغربية بتقديم المساعدات لإعادة الإعمار والإغاثة الإنسانية، إلا أن هذه الجهود غير كافية لمعالجة الأسباب الجذرية للمعاناة، وغالباً ما تكون مصحوبة بظروف سياسية تحد من فعاليتها.

وعلى الرغم من ازدواجية معايير الأنظمة، إلا أن هناك دعوات متزايدة داخل المجتمعات الغربية لمزيد من المساءلة وإتباع نهج أكثر توازناً في التعامل مع الصراع، وترتفع أصوات منظمات حقوقية والنشطاء وبعض القادة السياسيين بشكل متزايد حول الحاجة إلى دعم القانون الدولي وحماية المدنيين، وقد أدى هذا الضغط إلى بعض التحولات في الخطاب والسياسات، لكن التغيير الجوهري لا يزال بعيد المنال.

يعكس التعامل الغربي مع حرب غزة شبكة معقدة من المصالح والتناقضات، ففي الوقت الذي تدافع فيه الدول الغربية عن السلام وحقوق الإنسان، غالباً ما تتصرف الدول الغربية بطرق تديم الصراع والمعاناة، وتتطلب معالجة هذه الازدواجية التزاماً حقيقياً بالحياد والمساءلة والاعتراف بالإنسانية.

إن المعايير المزدوجة الواضحة في الدفاع عن حرية التعبير تنسف المكانة الأخلاقية للدول الغربية على الساحة الدولية، وتدمر دور الغرب الذي كان يبرع في تأديته في السياسة العالمية والدفاع عن حقوق الإنسان. إن تعامل الغرب مع حرية التعبير فيما يحدث في غزة من إبادة جماعية على يد الاحتلال الإسرائيلي يعري التزامه الهش بالمبادئ الديمقراطية.