غزةّ تدفع ألمانيا نحو الاستبداد
محمد عبد المنعم
يتناول الكاتب: فابيان شيدلر على موقع “scheerpost” موقف الحكومة الألمانية من العدوان الإسرائيلي على غزة، الذي يساند “إسرائيل” ويدعمها ويعمل على قمع أي صوت يحاول التعريف بالإبادة الجماعية التي تنتهجها في غزة.
فيما يلي نص المقال:
يُعدّ موقف الحكومة الألمانية من الحرب في غزة ومعاملتها القمعية المتزايدة لمُنتقديها أمراً مثيراً للقلق على المستوى الوطني والدولي. إذ تواصل السلطة المكوّنة من الديمقراطيين الاشتراكيين وحزب الخضر والليبراليين تعهدها بتقديم الدعم العسكري والدبلوماسي غير المشروط لـ”إسرائيل”، التي تخضع حالياً للمحاكمة أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بتهمة الإبادة الجماعية؛ وهي قضية تصنفها المحكمة نفسها على أنّها “منطقية”.
كما أنّ المثقفين والفنانين المشهورين عالمياً، بما في ذلك الأصوات اليهودية، الملتزمين بالدفاع عن حقوق الإنسان غير مرحّب بهم في ألمانيا وقد تم حرمان بعضهم من منصبه كأستاذ زائر وإلغاء حفلات منح الجوائز للبعض الآخر، ومن بينهم نانسي فريزر ولوري أندرسون وماشا جيسن؛ وذلك بتهمة الإشارة إلى جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان الموثقة على نطاق واسع في غزة والمطالبة بما تدعو إليه الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة، وهو وقف فوريّ ودائم لإطلاق النار لإنهاء القتل غير المُبرر في غزة.
في غضون ذلك، لقيَ أكثر من 33 ألف شخص، من بينهم 13 ألف طفل، حتفهم نتيجة عمليات القصف التي تستهدف القطاع وتشهد المجاعة تفاقماً.
هذا وتطول قائمة المحظورين وتتزايد بشكل يوميّ تقريباً. فقد تم اتهام المُخرج الإسرائيلي يوفال أبراهام والمُخرج الفلسطيني باسل عدرا، اللذين حصلا على جائزة برلين للأفلام الوثائقية عن فيلمهما “لا أرض أخرى” الذي يتناول عمليات التهجير التي تحدث في الضفة الغربية، بمعاداة السامية من قبل السياسيين ووسائل الإعلام الرائدة بسبب دعوتهما لإيقاف شحنات الأسلحة الألمانية المُرسلة إلى “إسرائيل”، والتي زادت بمقدار عشرة أضعاف خلال الحرب. ولأنهما تجرّآ على استخدام مصطلح “الفصل العنصري”، الذي بقيت تستخدمه منظمتا العفو الدولية و”هيومن رايتس ووتش” الحقوقيتان الرائدتان في العالم لسنوات في ما يتعلّق بـ”إسرائيل” بعد سنوات من الدراسات المتعمّقة التي أُجريت على أرض الواقع.
وبالتالي، فإنّ كلّ من يتذرّع بالأمم المتحدة والقانون الدولي ومنظمات حقوق الإنسان المعترف بها في ألمانيا يعدّ اليوم شخصاً غير مرغوب فيه وكارهاً لـ”إسرائيل” ومعادياً للسامية.
وهذا ليس كل شيء؛ فأيّ شخص ينتقد “إسرائيل” يخاطر اليوم بمنعه من دخول البلاد والمشاركة في الأنشطة السياسية، تماماً كما حصل مع وزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس والجرّاح البريطاني الفلسطيني المشهور عالمياً ورئيس جامعة غلاسكو، غسان أبو ستة، الذي احتجزته السلطات الألمانية في المطار لعدة ساعات ثم أعادته إلى بريطانيا، بسبب تقديمه تقريراً عن تجربته في العمل مع منظمة “أطباء بلا حدود” في مستشفى الشفاء المدمر في غزة خلال المرحلة الأولى من القصف في تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر، إلى محكمة العدل الدولية في كانون الثاني/يناير.
ويبدو أنّ الحكومة في برلين لم تكن ترغب في استماع الجمهور الألماني لشهادته؛ إذ تمت دعوة كلّ من فاروفاكيس وأبو ستة للتحدث في مؤتمر فلسطين المنعقد في برلين في الفترة من 12 إلى 14 نيسان/أبريل، والذي حضره أيضاً عدد من المشاركين اليهود.
وعلى الرغم من ذلك، تم إلغاء المؤتمر الذي كان من المقرر أن يستمر لثلاثة أيام بعد ساعتين من انطلاقه، من قِبل الشرطة الألمانية التي عمدت إلى قطع شبكة الكهرباء عن قاعة المؤتمر؛ وذلك بهدف قطع البث المباشر لمداخلة الباحث والمؤلّف الفلسطيني سلمان أبو ستة البالغ من العمر 87 عاماً عبر الإنترنت. وكان أبو ستة قد مُنع من دخول البلاد ومزاولة الأنشطة السياسية لأنه أشار في مقال إلى أنه لو كان شاباً يافعاً لربما شارك في تنفيذ هجوم حماس الدامي على “إسرائيل” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
وعليه، فإنّ الأساس القانوني الذي تمّ بموجبه فضّ مؤتمر بأكمله بسبب قيام متحدث واحد بالإدلاء بتصريحات مُريبة، يظل سراً من أسرار السلطات.
وفي الوقت الذي تظهر فيه استطلاعات الرأي أنّ 69% من الألمان يعتبرون تصرفات “إسرائيل” في غزة غير مبررة، فإنّ الحكومة الألمانية تواصل دعم حليفتها من دون قيد أو شرط. وبذلك، فإنها تتخذ إجراءات أكثر صرامة ضد منتقديها وتَشرع في مسار مواجهة خطير مع حرية الرأي والمعايير القانونية الدولية. وبهذه الطريقة، تهدد بجر ألمانيا أكثر فأكثر نحو اعتماد نظام استبدادي قمعي.
ومن وجهة نظر دولية، فإنّ ألمانيا لطالما قامرت بسمعتها. وينعكس ذلك بشكل خاص في الدعوى التي رفعتها نيكاراغوا ضدها بتهمة المساعدة والتحريض على الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، وهي قضية لاقت تأييداً واسع النطاق في الجنوب العالمي. وفي ظل انتشار “ثقافة الإلغاء” تجاه الأحداث المنتقدة لـ”إسرائيل”، يعمد الفنانون والمثقفون الدوليون إلى تجاهل ألمانيا بشكل متزايد. فعلى سبيل المثال، انضمت الكاتبة الفرنسية آني إرنو الحائزة على جائزة نوبل إلى مبادرة تدعو إلى مقاطعة المؤسسات الثقافية الألمانية التي تديرها الدولة، لأنّ ألمانيا تنتهج السياسة “المكارثية” التي تقمع حرية التعبير.
وكمبرر لانحراف الحكومة الألمانية عن مسارها، يُشاع كثيراً أنّ ألمانيا يجب أن تقف بحزم إلى جانب “إسرائيل” بسبب تاريخها. ولكن هل يمكن أن يكون الدرس الصحيح المستلهم من أعظم جريمة في تاريخ البشرية هو اتخاذ موقف ضد القانون الدولي وحقوق الإنسان وحرية الرأي؟ وهل من الأخلاقي التعهد بالتضامن الأبدي وغير المشروط مع دولة معينة، بغضّ النظر عمن يحكم تلك الدولة (في حالة “إسرائيل”، اليمين المتطرّف حالياً) وماذا يفعلون؟ ألا يجب على الحكومات الألمانية بشكل خاص أن تحمي حقوق الناس، بغض النظر عن أصلهم أو جنسيتهم أو لون بشرتهم أو دينهم من الاضطهاد والصدمات والموت للتكفير عن ذنب الماضي؟ ولكن لماذا لا يحظى سكان غزة بهذه الحماية من قبل السياسيين الألمان؟ ولماذا يتم نبذ أولئك الذين يدافعون عن هذه الحقوق ويسعون لوقف الإبادة ويتم منعهم من دخول المجال العام الألماني؟ إنّ مفهوم الحقيقة والعدالة ينقلب حالياً رأساً على عقب في ألمانيا وبقية العالم ينظر إليها ويهز رأسه.
.