سطوة الإعلام في العصور الإسلامية !
محمد صلاح الدين
لا يجادل عاقل في مدى سطوة الإعلام في العصر الحديث، وكيف يجعل الوعي عجينةً طريةً يشكّلها كيف شاء؛ فيحسَّن القبيح، ويقَبٍح الحسن، ويضخم أحداثًا هامشية، وأقزامًا، ويحط من شأن ملاحم وأبطال… إلخ.
لكن ما قد يستغربه البعض أن هذه القيمة للإعلام ليست وليدة عصر «الميديا» والتواصل الاجتماعي الحالي، وإنما موجودة منذ الأزل. في تاريخ العرب قبل وبعد الإسلام كان هذا الدور الإعلامي منوطًا في الأساس بأولئك الذين هم في كل وادٍ يهيمون، ويقولون ما لا يفعلون، وما لا يفعل غيرهم: الشعراء.
كان الشعر هو سِجلّ العرب، ونشرة أخبارهم، وساحة معاركهم باللسان، إذا هدأ السِِّنان أو لم يهدأ. وكان الشاعر بمثابة مذيع «التوك شو» الذي نعرفه جيدًا هذه الأيام، والذي ينفرد بالمشاهد والميكروفون، ويبدأ في تسديد الضربات والركلات هنا وهناك في وعي ولا وعي الصديق والعدو.
لم يكن السلاطين والخلفاء يُغدقون على الشعراءِ من فراغ؛ فبيتٌ جيد يمتدح به شاعرٌ مجيد أحدَهم وإن لم يستحق 1% من الأوصاف التي يكيلها له الشاعر المتعطِّش لصرر الدنانير، وللحظوة في مجلس الحكم والنفوذ، هو دعاية ماضية لا تقدَّر بثمن، ستجري على الألسنة من أسواق العواصم، إلى مجالس العلم، إلى مضارب الإبل، إلى العذارى في خدورهن، وإلى الجواري اللائي يملأن الجرار على حافة نهر لعوب، إلى صفحة التاريخ؛ فتحط أناسًا وترفع آخرين وإن مرَّت مئات السنين.
تحكي السطور القادمة نموذجًا من هؤلاء، اجتمع فيه شاعر استثنائيّ – لا يزال وقع أبيات حكمته يذهب بالقلوب والأبصار بعد 11 قرنًا من وفاته – وحاكم شديد السخاء يمتلك حدًّا أدنى من الجلال والإنجازات التي تستحق المدح: إنه أبو الطيب المتنبي.
متوسِّط القامة في زمن الأقزام
كان النصف الأول من القرن الرابع الهجري من أشد الفترات حلكة في التاريخ السياسي للأمة الإسلامية؛ حيث وهنت الخلافة العباسية، وتقوقعت في بغداد وضواحيها، وحتى هذه استلبها منها أسرة بنو بوَيه التي دانت بالمذهب الشيعي؛ فانتزعوا صلاحيات الحكم من الخليفة، ونصّبوا أنفسهم سلاطين.
تشرذمت الدولة العظمى إلى دويلاتٍ متناحرة على الحدود والنفوذ؛ فطمع عدو الداخل والخارج، فمثلًا تمكّنت فرق القرامطة (وهم من غلاة الباطنية) من إقامة دولة لها شرق الجزيرة العربية وجنوب العراق، استغلتها منطلقًا للسلب والنهب هنا وهناك دون رادع، حتى وصل الأمر بهم إلى عدوانٍ جسيم على الكعبة عام 317هـ، وقتل آلاف الحجاج داخل الحرم.
وعلى الثغور، لم يكن الوضع أحسن حالًا؛ فقد انصرف معظم الحكّام المسلمين عن تحصينها في وجه الأعداء المتربصين كالروم البيزنطيين؛ إذ انشغل حكام تلك المناطق أكثر بالتحصُّن ضد بعضهم البعض؛ فتركوا رعايا الحدود فريسةً للقتل والسبي. وكان قصارى جهد أكثرهم دفع الجزية للعدو الخارجي مقابل كف عدوانه ريثما ينصرفون للعدوان على دويلات بعضهم بعضًا.
في هذا السياق، برز إلى الواجهة أميرٌ طموح هو سيف الدولة – اسمه علي بن أبي الهيجاء – الحمداني، والذي أقام لنفسه دولةً على حلب وجوارها من شمال الشام، تحت لواء أخيه ناصر الدولة المستقلِّ بحكم الموصل شمال العراق. وكان كلاهما يدينُ بالولاء اسميًا للخليفة العباسي السنِّي ببغداد، رغم كونهما من الشيعة الاثنا عشرية.
كغيره من أمراء ذلك الزمان شارك سيف الدولة في الكثير من الحروب الداخلية على السلطة والنفوذ. ففي عام 330هـ شارك مع أخيه في إعادة الخليفة العباسي المتقي إلى بغداد، وطرد البريدي (وهو أميرٌ متمرد متحالفٌ مع القرامطة، استولى على عاصمة الخلافة، وأعمل فيها السلب والنهب). وفي عام 333هـ استولى سيف الدولة على حلب، وحاول انتزاع حمص؛ فدارت معارك – لم يظفر فيها – بينه وبين جيش الدولة الإخشيدية المسيطرة على مصر والشام؛ فاكتفى بحلب وأعمالها. ثم استغل وفاة محمد بن طغج الإخشيدي فاستولى على دمشق عام 334هـ؛ حتى خرج له حاكم مصر الجديد – كافور الإخشيدي – فانتزع منه دمشق ثم حلب، لكن عادت معظم الجيوش المصرية للتمركز جنوبًا مرة أخرى؛ فاستطاع سيف الدولة استعادة حلب.
لسوء ولحسن حظ سيف الدولة في آن، أن إمارته كانت نقطة التماس الأولى والأهم ضد الإمبراطورية البيزنطية، والتي كانت قد استعادت عافيتها كثيرًا في تلك الفترة، خصوصًا وقد انقطعت الغزوات الدورية التي كانت تقوم بها دولة الخلافة العباسية مرة أو مرتين في العام، أيام الخلفاء الأقوياء كهارون الرشيد. وهكذا أصبح سيف الدولة على خطِّ مواجهةٍ مفتوحة مع الروم البيزنطيين، وأصبحت إمكانات «دويلة» تواجه مقدرات واحدة من أقوى الإمبراطوريات في هذا الزمن.
وهكذا دخل سيف الدولة التاريخ الإسلامي من بوابة الجهاد ضد العدوّ البيزنطيّ، مهاجمًا ومدافعًا ومتبادلًا للأسرى معهم، وحتى منهزمًا فارًّا يتعاطف معه الكثيرون لشهامته في مواجهة عدو أقوى منهُ عددًا وعدة، لاسيّما وسيف الدولة لم يجد ناصرًا يعينه في معظم حروبه تلك، لا من السنة، ولا من الشيعة، وحتى من دولة أخيه ناصر الدولة في الموصل؛ لانشغال الأخير أكثر بالحروب الداخلية على السلطة والنفوذ، خاصة في بغداد التي لم يعد لخليفتها سوى الاسم دون الرسم، وتفانى الأمراء من حوله في حروب السيطرة على مقاليد الحكم والثروة في الدولة الآيلة للسقوط.
الحدث.. والقصيدة الأشهر
هل الحدثُ الحمراءُ تعرفُ لونَها * وتعرفُ أيّ الساقييْنِ الغمائمُ؟
سقتها الغمامُ الغُرُّ قبلَ نزوله * فلما دنا منها سقتها الجماجمُ
وكان بها مثلُ الجنونِ فأصبحتْ * ومن جثثِ القتلى عليها تمائمُ
بناها فأعلى، والقنا يقرعُ القنا * وموجُ المنايا حولَها متلاطمُ
وكيفَ تُرجِّي الرومُ والروسُ هدمَها * وذا الطعنُ آساسٌ لها ودعائمُ؟
في عام 343هـ حقق سيف الدولة الحمداني أبرز انتصاراته ضد الروم؛ عندما هزمهم هزيمة ساحقة قرب قلعة الحدث الحدودية رغم قلة عدد جنوده مقارنة بالأعداء. وكان يقود الجيش الرومي نقفورس الثاني – والذي عاد وانتقم بعدها بـثماني سنوات واحتلَّ حلب كما سنذكر – وكان حينها قائد جيوش الجزء الشرقي من الدولة البيزنطية، وكان يلقبه العرب بالدمُستُق. وقد حشد نقفور في هذه الغزوة جيشًا بيزنطيًا ضخمًا، يؤازره متطوعون من البلغار والروس، وقد أراد هدم قلعة الحدث التي أنشأها سيف الدولة في موقع متقدم بالثغور، لكن حالت هزيمته دون القيام بهذا. كما سقط ابنه قتيلًا، وأُسر صهره وابن صهره.
لمَّا عاد سيفُ الدولة مظفَّرًا إلى حلب وقف الشعراء ببابه مادحين، لكن خطف المتنبى الألباب بقصيدته التي خلَّدت اسم سيف الدولة 11 قرنًا، والتي اختصَّه فيها بعدد من أوجه المدح، كان يتيه معظم الممدوحين بواحدٍ منها فحسب.
رغم أن التصنع الذي لا تكاد تخلو منه المدائح عمومًا، وكذلك المبالغات، لا تترك مجالًا للحِكَم والأمثال، وروائع المعاني، فقد نجح المتنبي في الجمع بين الحكمة والمبالغة بشكل مميز. فمن الحكم البارزة مطلع القصيدة العبقري، والذي لا يزال مضرب الأمثال إلى الآن.. وبيته الثاني معبر جدًا عن أنصاف الرجال الذي يقيمون الدنيا ويقعدونها لربع إنجاز، في حين أنّ الرجال الحقيقيين دائمًا ما يكونون أكبر من كل المصاعب والعوائق، وكلما حققوا إنجازًا تصاغرَ في عيونهم في مقابل الإنجاز التالي الأكبر الذي يطمحون إليه.
على قدرِ أهل العزمِ تأتي العزائمُ * وتأتي على قدر الكرامِ المكارمُ
وتكبُر في عينِ الصغيرِ صغارُها * وتصغُرُ في عينِ العظيم العظائمُ
وحكمةٌ أخرى عظيمة عن أن طريق المجد والنصر لا يُذلّل للحق إلا بقوة ضاربة تقوم به، كانت هي السيوف الصوارم في زمن المتنبي .
ومن يطلبِ الفتحَ الجليلَ فإنما * مفاتيحُهُ البيضُ الخفافُ الصوارمُ
سيف الدولة ينتصر وينهزم.. لكنه ينتصر دومًا في أبياتِ المتنبي
بقسِّم البعض الحروب الحلبية – البيزنطية في زمن سيف الدولة إلى مرحلتين. في الأولى كانت الحرب سجالًا بين الطرفين، وحقق فيها جيشُ سيف الدولة بعضَ الإنجازات التاريخية مع الوضع فى الاعتبار فارق السرعات بين الجانبين.
لكن لأنّ سيف الدولة على أرضِ الواقع لم يكن في الحقيقة سوى جزءٍ قليل من الصورة التي رسمتها عنه أبيات شاعره الأثير المتنبي، ولأن نخوته وحماسته كانتا أكبر بكثيرٍ من شجاعته وقدراته، فقد انهزم كثيرًا في المرحلة الثانية، خاصة في الغزوة المدمِّرة التي قادها أبرز القادة البيزنطيين نقفورس الثاني بنفسه عام 351-352هـ ، والذي أصبح إمبراطورًا بعدها مباشرة. فقد أحدث نقفورس خلال هذه الغزوة الكثير من الخراب بالمدن الخاضعة لسلطان سيف الدولة في جنوب تركيا وشمال سوريا، واستولى على عددٍ من الحصون والمدن الهامة، حتى استولى على حاضرته حلب نفسها عام 351 هـ، ونهبها ونكَّل بأهلها، ثم انسحب؛ ليعود لها سيف الدولة منكسرًا واهنًا.
كذلك برز ضعف مهارات سيف الدولة في القيادة العسكرية في نجاح الروم بإيقاعه في كمائنهم بنفس الطريقة عدة مرات، كما حدث في عام 339هـ عندما قام بتوغُّلٍ ناجح في أراضي الروم المجاورة له، وبينما هو عائد بالجيش والغنائم كبسه الروم على حين غرة، فاستلبوا كل ما كان معه، وقتلوا معظم جيشه، فلم ينجُ إلا بمعجزة مع نفرٍ قليل من جُنده.
لكنّ سيف الدولة كان مثابرًا، فعاد بغزوةٍ ناجحة ضد الروم عام 342هـ عاد منها سالمًا غانمًا. لكن يتكرر نفس الكمين بحذافيره عام 349هـ، وينجو سيف الدولة بأعجوبة مع ٣٠٠ من فرسانه، بينما يفقد باقي الجيش. كان يؤخذ عليه كذلك الاستبداد، والانفراد بالرأي في معظم الشؤون. وقد توفي سيف الدولة عام 356هـ وهو في الثالثة والخمسين من عمره، ودفن في ميافارقين.
اشتهر سيف الدولة بالاحتفاء بالشعراء والأدباء في بلاطه، وكان هؤلاء قوة ناعمة لا يستهان بها؛ فقد امتدحوه كثيرًا لسخائه معهم حد الإسراف، وكانوا يجدون في غزواته ومعاركه مادة لا تنضب لمديح الرجل، وكفى بأبي الطيب المتنبي – شاعر العربية الأشهر – وأبي فراس الحمداني، ابن عم سيف الدولة، مثاليْن على ثقل وزن بلاط سيف الدولة الحمداني. وكان مطربه هو الفيلسوف الشهير أبو نصر الفارابي.
وقد كافأ المتنبي سيفَ الدولة على الحظوة التي منحها إياه – قبل أن يُفسدَ السُّعاة ما بينهما – ببعض أقوى قصائد المديح في تاريخ الشعر العربي، والتي اشتطَّ أبو الطيب في بعضها حتى جعل سيف الدولة خير خلق الله كلهم.
كانَ أَحسَنَ خَلقِ اللَهِ كُلِّهِمِ * وَكانَ أَحسَنَ ما في الأَحسَنِ الشِيَمُ
دوام الحال من المحال
رغم مكان المتنبي الرفيع في بلاط سيف الدولة، وإعطاء الأخير له وضعًا خاصًا من أبرز أشكاله أنه كان الوحيد الذي يُلقي الشعر جالسًا في مجلس سيف الدولة، وكذلك سخاء سيف الدولة معه في العطايا، فإن الأيام جرت بينهما بما لا تشتهيه السفن.
كان الوشاة لا يملون من محاولة الإيقاع بالمتنبي لدى سيف الدولة، وكان المتنبي لا يقصر في إيقاد صدورهم نارًا ضده بتعاليه عليهم. وجد هؤلاء الوشاة مادة خصبة لذم المتنبي لدى سيف الدولة في أبياته العديدة التي يفخر فيها بنفسه، والتي يجعل نفسه فيها رأسًا برأس مع سيف الدولة. مع تكرار الوشاية، وطول الإلحاح، بدأ سيف الدولة يتغير شيئًا فشيئًا على شاعره الأثير، ولم تعُدْ للأخير نفس الوجاهة التي اعتادَها في مجلس ممدوحه.
كذلك كان المتنبي ينفَس على سيف الدولة عدم تلبية مطامعه السياسة في أن يكون أميرًا على إحدى أعمال الدولة. تراكم هذا مع الوشاية، فلم يجد المتنبي بدًّا من الرحيل؛ علَّه يجد عند غير سيف الدولة ما لم يجدْه عنده، لكن كان بانتظاره أسوأ مما فات، ولكن لتلك حكاية أخرى.