حرب التجويع في غزة
طاهر صالح
التجويع هو استراتيجية قديمة تم استخدامها عبر التاريخ بواسطة العديد من القوى الاستعمارية، وتعتمد هذه الاستراتيجية الاستعمارية على استخدام الغذاء كسلاح من خلال حرمان السكان في بلد ما من الموارد الغذائية كوسيلة للضغط أو كعقاب. في العصر الحديث، تم استخدامها في أوقات الحرب العالمية وفي سياقات استعمارية مختلفة.
أحد الأمثلة التاريخية البارزة لاستخدام سلاح التجويع من قبل القوى الاستعمارية كان في الإمبراطورية البريطانية خلال المجاعة الكبرى في أيرلندا (1845-1852)، وفي القرن العشرين، استخدمت القوى الاستعمارية والقوى الإمبريالية سلاح التجويع في سيناريوهات مختلفة.
وبالطبع استخدمتها القوى الاستعمارية في أفريقيا بشكل وحشي، فعلى سبيل المثال، استخدمتها بلجيكا في الكونغو وبريطانيا في كينيا، إذ اعتادت على استخدام أساليب تضمنت الحرمان من الغذاء لقمع المقاومة وفرض سيطرتها الاستعمارية لنهب خيرات تلك البلاد، هذه الأساليب أدت إلى معاناة ومأسٍ إنسانية هائلة وتأثيرات طويلة الأمد على السكان المحليين.
واليوم، يواصل الاحتلال الإسرائيلي، حرب الإبادة الجماعية التي يشنها على قطاع غزة، ويُمعن في استخدام سياساته العدوانية النازية تجاه الفلسطينيين، من خلال عمليات قصف البنية التحتية المدنية والقتل والتهجير واستخدام سياسة التجويع والتعطيش والعقاب الجماعي سلاحاً للإيذاء بهدف جعل غزة مكاناً غير صالح للحياة.
فقد أظهرت مقاطع فيديو تعرض نازحين فلسطينيين لإطلاق نار من جيش الاحتلال الإسرائيلي، خلال احتشاد الآلاف منهم في الغرب والشمال من مدينة غزة، للحصول على بعض الطحين الذي تحمله شاحنات مساعدات محدودة، ووثقت المشاهد إطلاق النار على الوافدين بشكل مكثف من قبل طائرات الاحتلال.
ورغم أن تجويع المدنيين كأسلوب حرب محظور بموجب المادة 54 من “البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف” والمادة 14 من “البروتوكول الإضافي الثاني”، إلا أن الاحتلال يواصل منع وحرمان الفلسطينيين في قطاع غزة من مصادر الغذاء والإمدادات، بينما يقف المجتمع الدولي دون فعل حقيقي يرغم الاحتلال على وقف العدوان الهمجي، أو حتى تسهيل إدخال وتقديم المساعدة الإنسانية السريعة ودون عوائق إلى قطاع غزة.
الاحتلال الإسرائيلي يعكس بشكل صارخ التجاهل المطلق للمبادئ والقوانين الدولية، حيث لا ينظر إلى الفلسطينيين كبشر، بل كعقبات تحول دون تحقيق أهدافه الاستعمارية والهمجية. إذ تتجلى العنصرية والوحشية في أبشع صورها، مع إعلان واضح ووقح من قبل مسؤولي الاحتلال عن استخدام التجويع كأداة متعمدة للإبادة والقمع. هذا الإعلان ليس مجرد تعبير عن سياسة ظالمة، بل هو اعتراف بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، حيث يتم استهداف الأساس الأكثر أهمية للحياة – الغذاء – بهدف إضعاف وإبادة مجتمع بأكمله.
من خلال تصريحاتهم، لا يخفي مسؤولو الاحتلال نواياهم ولا يبذلون أي محاولة للتمويه أو التبرير. يتم تقديم هذه التصريحات في العلن دون أي خوف، ونستعرض بعض الردود والأدلّة على استخدام التجويع عمداً كوسيلة حرب إبادة جماعية، وعقاب جماعي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي الفاشي وقادته، وفي مقدمتهم، رئيس وزرائه بنيامين نتنياهو الذي قال، في مقابلة مع الـ CNN، إن إسرائيل تحرم غزة من الوقود منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول لتعزيز موقف إسرائيل عندما يتعلق الأمر بالتفاوض مع حركة “حماس” بشأن إطلاق سراح الرهائن، وقال: “لو أننا فعلنا ذلك وسمحنا بدخول الوقود، لما تمكنّا من إخراج رهائننا قط”.
وبالبطبع يتذكر الجميع تاريخ 9 أكتوبر/تشرين الأول، حين قال وزير الدفاع غالانت بكل همجية، إن إسرائيل ستفرض حصاراً كاملاً على غزة. لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا غاز، كل شي مغلق، واستفاض نصاً بقوله: “نحن نقاتل حيوانات بشرية ونتصرف وفقاً لذلك”.
بينما في تاريخ 11 أكتوبر/تشرين الأول، صرّح وزير الطاقة يسرائيل كانتس، بأنه أمر بقطع الكهرباء والمياه، وأضاف: “لسنوات، قدّمنا إلى غزة الكهرباء والماء والوقود، وبدلاً من الشكر أرسلوا آلاف الحيوانات البشرية للذبح والقتل والاغتصاب، وخطف الأطفال، والنساء، والشيوخ، لهذا قررنا قطع إمدادات المياه والكهرباء والوقود، والآن انهارت محطة توليد الكهرباء المحلية، ولا يوجد كهرباء في غزة، سنواصل فرض حصار مُحَكم؛ حتى يُرفع تهديد حركة حماس عن إسرائيل والعالم”.
وفي الثاني عشر من أكتوبر/تشرين الأول، صرح كانتس بأنه لن تقدم أي مساعدات إنسانية إلى غزة، ولن يتم تشغيل الكهرباء، ولن يُفتح أي صنبور ماء، ولن تسمح بدخول شاحنات الوقود حتى تتم إعادة الأسرى “الإسرائيليين” إلى منازلهم.
وفي تاريخ السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول، أكد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير في تغريدة له: “طالما أن حماس لا تطلق سراح الأسرى، فإن الشيء الوحيد الذي يحتاج إلى دخول غزة هو مئات الأطنان من المتفجرات من سلاح الجو، وليس غراماً واحداً من المساعدات الإنسانية”.
وفي الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني، أعلن وزير المالية سموتريتش بأنه يجب عدم السماح بدخول الوقود إلى غزة “تحت أي ظرف”، واصفاً قرار مجلس الحرب “الإسرائيلي” بالسماح بدخول كميات صغيرة من الوقود إلى القطاع بأنه “خطأ جسيم”، مطالباً بإيقاف هذه “الفضيحة” فوراً ومنع دخول الوقود إلى القطاع، وفقاً لما نقلته صحيفة “جيروزاليم بوست”.
وفي فيديو تم نشره على الإنترنت في نفس اليوم، قال العقيد بار شيشت، نائب رئيس “الإدارة المدنية”، خلال مقابلة من داخل غزة: “أي شخص يعود إلى هنا، إن عاد، سيجد أرضاً محروقة. لن يجد بيوتاً، زراعة، أو أي شيء؛ ليس لديهم مستقبل”. هذه التصريحات تشير إلى استراتيجية صارمة تتجاهل الاعتبارات الإنسانية وتستخدم العقاب الجماعي كأداة ضغط.
لا شك أن هذه التصريحات والردود ترتقي إلى مصاف العقاب الجماعي للسكان المدنيين، وهو جريمة حرب واضحة وصريحة، حيث ترتكب إسرائيل إبادة الجماعية، وتتغاضى عن أي قوانين.
تجسد سياسة الحرمان من الغذاء والماء تجلياً صارخاً لوحشية الاحتلال وهيمنته الفاشية، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي، وتعد بمثابة إحدى أدوات الإبادة الجماعية التي يتبناها. بكل وقاحة، عملت قوات الاحتلال على حظر وإعاقة وصول المعونات إلى جميع أرجاء القطاع، ولم تكتفِ بذلك بل أقدمت على قصف الإمدادات القادمة عبر البحر مؤخراً. وفي تصعيد للعنف، شن المستوطنون هجمات على شاحنات الإغاثة، مانعين إياها من العبور عبر معبر كرم أبو سالم، مما يؤكد على الطبيعة الإجرامية الشاملة لثقافة وسياسة هذا الاحتلال.
وقد شهد على هذه الفظائع المفوض العام لوكالة الأونروا بقوله: “آخر مرة تمكنا فيها من إيصال الطعام إلى وادي غزة وشماله كانت في الثالث والعشرين من يناير/كانون الثاني، وقد تم رفض نصف طلباتنا لتقديم المساعدات منذ بداية العام”. هذا السلوك يعكس بوضوح نية ممنهجة لتنفيذ إبادة جماعية بحق سكان غزة، مما يشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي والإنسانية.
خاتمة، تظهر السياسات الأكثر بغضاً وخطورة التي يعتمدها الاحتلال الإسرائيلي وحكام العالم في حرمان الشعوب من الضروريات الغذائية الأساسية، عن تجذر السياسات الاستعمارية الشنيعة المستمرة حتى يومنا هذا، إذ تمثل أحد أفظع أشكال العدوان. وأعتقد أن على للعالم أن يستفيق إذا أراد أن يبقي على ذرة من إنسانيته، وينهي هذا العنف والغطرسة، لوقف الاعتداءات والإبادة الجماعية، ولإنهاء المأساة الإنسانية في قطاع غزة، إن الصمت والتقاعس الدولي يمنحان الاحتلال إذناً ضمنياً لاستمرار هذه الإبادة لفلسطينين ولأي مفهوم إنساني بشكل عام.
.