تواطؤ إدارة بايدن في مجاعة غزة

د. أمير حمد

في تحقيق لصحيفة “اندبندنت”، وجهت أصابع الاتهام إلى الرئيس جو بايدن وإدارته لتواطئهم في السماح بتفشي المجاعة في غزة من خلال عدم اتخاذهم التدابير الكافية بعد تلقيهم تحذيرات متتالية من خبرائهم ومنظمات الإغاثة التابعة لهم.

وتكشف مقابلات مع مسؤولين حاليين وسابقين في وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية (يو أس آيد) USAID ووزارة الخارجية الأميركية، كما منظمات الإغاثة العاملة في غزة ووثائق داخلية تابعة لوكالة “يو إس آيد” عن أن الإدارة إما رفضت أو تجاهلت المناشدات باستخدام نفوذها لإقناع حليفتها إسرائيل – التي تتلقى دعماً عسكرياً أميركياً بمليارات الدولارات – كي تسمح بدخول مساعدات إنسانية كافية إلى قطاع غزة منعاً لانتشار المجاعة فيه. 

ويقول المسؤولون السابقون أيضاً إن الولايات المتحدة وفرت الغطاء الدبلوماسي لإسرائيل من أجل تهيئة الظروف المناسبة لحصول المجاعة عبر إعاقة كل الجهود الدولية الرامية إلى وقف إطلاق النار أو تخفيف الأزمة، مما جعل عملية إيصال المساعدات شبه مستحيلة.

شهادة داخلية

قال جوش بول، المسؤول السابق في وزارة الخارجية الذي استقال احتجاجاً على الدعم الأميركي للحرب، لـ”اندبندنت”، “لا يقتصر الأمر على تجاهل التجويع الذي صنعه الإنسان لشعب بأكمله، بل هو تواطؤ مباشر”.

لو فرضت الولايات المتحدة ضغوطاً مكثفة على إسرائيل كي تفتح مزيداً من المعابر البرية وتغرق غزة بالمساعدات منذ بدء ظهور أولى علامات التحذير في ديسمبر (كانون الأول)، لكان ذلك كفيلاً بمنع انتشار الأزمة، برأي المسؤولين. لكن السيد بايدن رفض فرض شروط على المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل. 

وبدل أن يفعل ذلك، دفعت حكومة بايدن باتجاه حلول إغاثية مبتكرة وغير فعالة مثل إسقاط المساعدات من الجو أو إقامة ميناء عائم. والآن، يعاني زهاء 300 ألف شخص في شمال غزة مجاعة “شاملة” وفقاً لبرنامج الأغذية العالمي، فيما يعيش سكان غزة بأكملهم، أي 2.3 مليون شخص، في مستويات كارثية من الجوع.

أما مستوى المعارضة داخل الوكالة الحكومية الأميركية المعنية بتوزيع المساعدات المدنية في الخارج ومكافحة الجوع حول العالم، فلم يعرف له مثيل قبلاً.

إذ أرسل موظفو “يو إس آيد” 19 مذكرة اعتراض داخلية في الأقل منذ بداية الحرب، انتقدوا فيها الدعم الأميركي للحرب على غزة.

وفي مذكرة اعتراض جماعية داخلية كتبها هذا الشهر موظفون عدة في “يو إس آيد”، هاجم الموظفون الوكالة وإدارة بايدن على “عدم صون المبادئ الإنسانية الدولية والالتزام بولايتها الرامية إلى إنقاذ الأرواح”. 

الأطفال هم الأشد عرضة للخطر

المجاعة تخطف الأصغر سناً قبل غيرهم. في غزة اليوم، تعجز أمهات كثيرات عن إدرار ما يكفي من الحليب لإرضاع صغارهن لأنهن لا يتناولن ما يكفي من الطعام أنفسهن. ويدفع اليأس بمن لا يجدون ما يسدون به رمقهم إلى استهلاك أعلاف الحيوانات وغلي الحشائش. فيما تعيش عائلات كثيرة على وجبة واحدة يومياً.

وصف آرفند داس، رئيس الفريق المسؤول عن التصدي لأزمة غزة في لجنة الإنقاذ الدولية الذي قضى أشهراً في غزة، ما رآه من ازدياد عدد الأطفال الذين يعانون سوء التغذية على مر الأشهر. وقال “أصبح الوضع الطبيعي رؤية أطفال ونساء شديدي النحول، لا يكسو أجسامهم أي لحم حرفياً”.

وأضاف السيد داس، الذي لديه باع طويل في العمل الإغاثي وعمل قبل ذلك في سوريا والسودان وجنوب السودان “رأيت أطفالاً يجلسون في الأروقة، صغار ورضع ليس لديهم أي طعام ولا مياه صالحة للشرب ولا أي شيء. لم أر هذا النوع من سوء التغذية الحاد من قبل”.

وقال طبيب طوارئ قدم من المملكة المتحدة ليعمل في مستشفى قرب خان يونس في غزة لـ”اندبندنت” عبر الهاتف إن “الأطفال بالأخص يعانون معاناة شديدة”.

وكانت هذه المجاعة المميتة متوقعة منذ الأيام الأولى من الحرب. إذ بدأت إسرائيل ردها على الهجوم العنيف الذي شنته “حماس” يوم السابع من أكتوبر بفرض حصار خانق أعلنه وزير الدفاع يوآف غالانت. 

وقال يوم التاسع من أكتوبر “إننا بصدد فرض حصار شامل. لا كهرباء ولا طعام ولا مياه ولا وقود- كل شيء مسدود. نحن نقاتل حيوانات بشرية وعلينا التصرف على هذا الأساس”.  وتبع القول العمل.

كما فرضت إسرائيل قيوداً مشددة على إيصال المساعدات إلى القطاع ابتداء من تلك الأيام الأولى. وقال مسؤولون في الأمم المتحدة وفي منظمات إغاثة إن عمليات التفتيش الشاملة للشاحنات والتقييد الممنهج على إيصال الشحنات والرفض العشوائي لدخول أشياء ذات “الاستخدام المزدوج” مثل الشاحنات والمستلزمات التي قالت إسرائيل إن “حماس” قد تستخدمها في الحرب، عوامل فاقمت أزمة الجوع في غزة.

كان نحو ثلثي سكان غزة يعتمدون على المساعدات الغذائية قبل الحرب، وفي ذلك الوقت دخلت القطاع أكثر من 500 شاحنة يومياً، منها شاحنات محملة بالوقود. لكن بين السابع من أكتوبر ونهاية فبراير (شباط)، انخفض عدد الشاحنات التي تدخل إلى ما معدله 90 شاحنة يومياً فقط، مما يشكل تراجعاً نسبته 82 في المئة في وقت ازدادت فيه الحاجة إلى المساعدات بشكل كبير بسبب الحرب.

التحذيرات الأولى

وصل عدد ضحايا القصف الإسرائيلي على غزة إلى الآلاف بسرعة، لكن خطر المجاعة كان هو الآخر يلوح في الأفق.

بحلول ديسمبر (كانون الأول)، توصلت المؤسستان الدوليتان اللتان تلجأ إليهما حكومات العالم لتحديد مرحلة الوصول إلى المجاعة – وهما التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي وشبكة نظام الإنذار المبكر بالمجاعة – إلى الخلاصة نفسها: المجاعة وشيكة وتهدد أكثر من مليون شخص.  

وقال السيد كونينديك، الذي ترأس مكتب المساعدة الخارجية في حالات الكوارث في “يو إس آيد” طوال ثلاث سنوات، إن تلك التحذيرات كان من المفترض أن تحث البيت الأبيض على التحرك الفوري. فلو وقعت الظروف نفسها في معظم دول العالم، كما قال، هذا ما كان ليفعله. لكن الولايات المتحدة تعنتت في رفضها اتخاذ أية خطوة قد تعوق الجهد الحربي الإسرائيلي.

وقال “عندما تظهر تحذيرات تنبه إلى وجود ذلك الخطر، من المفترض أن تقابل برد فعل حازم، سواء من ناحية المساعدات الإغاثية أو من الناحية الدبلوماسية. لكن لم يدل شيء في استجابة إدارة بايدن لتوقعات حصول المجاعة في ديسمبر على هذا الشكل من التحول الحاد نحو منع وقوع المجاعة”.

وقال السيد كونينديك “أعتقد أن إدارة بايدن كانت تضغط على إسرائيل في الكواليس لكي تستأنف فتح المعابر لمرور المساعدات. لكنها اعتمدت موقف الإذعان التام للطريقة التي اختارت إسرائيل خوض الحرب بها، واستمرت بتزويدها بالأسلحة من دون أن تفرض أي شروط حقيقية على ذلك”.

“أونروا” تفقد قدرتها على العمل

انتشر الجوع سريعاً خلال الشهر التالي مع استمرار الحرب. يوم الـ27 من فبراير، قال ثلاثة مسؤولين كبار في الأمم المتحدة لمجلس الأمن إن 576 ألف شخص في الأقل أصبحوا الآن “على بعد خطوة واحدة من المجاعة”.

وفي إحدى أبشع المجازر التي وقعت في هذا النزاع، قتل عشرات الفلسطينيين أثناء محاولتهم الوصول إلى المعونات بكل ما أوتوا من قوة بعدما أطلقت القوات الإسرائيلية النار على حشد يحاول الحصول على أكياس دقيق من شاحنات المساعدات في الـ29 من فبراير قرب مدينة غزة.

قبل الحرب، كانت “أونروا”، أكبر وكالة أممية عاملة في غزة، توفر وتوزع الاحتياجات الأساسية للناس لكي يتمكنوا من الاستمرار في القطاع المحاصر، مثل الغذاء والدواء والوقود. وكانت الولايات المتحدة أكبر جهة مانحة لـ”الأونروا”، بفارق كبير عن الجهات الأخرى، إذ تسهم بنحو نصف موازنة التشغيل السنوية للوكالة تقريباً.

لكن الولايات المتحدة علقت مساهمتها بعد الادعاءات الإسرائيلية بتورط نحو 12 موظفاً في “أونروا” في هجوم السابع من أكتوبر، وبارتباط 10 في المئة من موظفيها تقريباً بالمقاتلين. (لاحقاً، توصل تحقيق مستقل ترأسته وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة كاثرين كولونا إلى أن إسرائيل لم تقدم بعد أي إثباتات تؤكد صحة هذه المزاعم).

مع حلول نهاية فبراير، قالت “أونروا” إن إسرائيل منعتها فعلياً من دخول شمال غزة.  

وقالت المنظمة إن 188 من موظفيها في الأقل قتلوا منذ بداية الحرب، فيما استهدف أكثر من 150 مرفقاً من مرافقها- من بينها عدد كبير من المدارس- ولقي أكثر من 400 شخص حتفهم “أثناء احتمائهم بعلم الأمم المتحدة”.

حل بسيط

بالنسبة إلى العاملين في الحقل الإنساني الموجودين على الأرض، كان حل المشكلة بسيطاً: فوقف إطلاق النار هو السبيل الوحيد لزيادة كمية المساعدات الضرورية من أجل منع وقوع المجاعة. ومن دون ذلك، أضعف الإيمان أن تفتح إسرائيل مزيداً من المعابر البرية في غزة وتسمح بمرور عدد أكبر من شاحنات المساعدات.

لكن الولايات المتحدة عرقلت محاولات الوساطة المتتالية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار بالنيابة عن حليفتها، إسرائيل.

في تبريرها لاستخدام حق الفيتو للمرة الثالثة في الـ20 من فبراير، قالت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس – غرينفيلد إن أي وقف فوري لإطلاق النار قد يهدد المحادثات المتعددة الأطراف للتوصل إلى هدنة موقتة في الحرب وإطلاق سراح الأسرى الذين تحتجزهم “حماس”.

وفي ظل غياب أي وقف شامل لإطلاق النار، ناشدت المنظمات الإنسانية إدارة بايدن أن تستخدم نفوذها للضغط على إسرائيل كي تسمح بالتدفق الفوري للمساعدات الضرورية لمنع المجاعة إلى غزة.

فوحدها الولايات المتحدة، باعتبارها الداعم الرئيس لحرب إسرائيل، والجهة التي تهبها نحو 4 مليارات دولار سنوياً للدفاع عن نفسها، تمتلك النفوذ الكافي لكي تقنع إسرائيل بهذه الخطوة. لكن السيد بايدن رفض بتعنت مجرد التفكير في فرض أي شروط على المساعدات، ذاكراً اعتقاده القديم بضرورة دعم الدولة اليهودية الوحيدة في العالم.

ووجه السيد كونينديك الذي يترأس حالياً المنظمة الدولية للاجئين Refugees International نداء علنياً إلى السيد بايدن في مقالة رأي نشرتها مجلة “فورين أفيرز” في فبراير، دعاه فيه “للتحرك الآن بغية جعل الوقاية من المجاعة أولوية قصوى والاستعداد لاستخدام النفوذ الأميركي البناء- بما يشمل وقف مبيعات الأسلحة موقتاً- إن لم تستجب الحكومة الإسرائيلية”.    

وقال “لا أعتقد بأن رئيس الولايات المتحدة- الحليف والممول الأهم لإسرائيل- يمتلك نفوذاً ضئيلاً لا يسمح له بأن يرغمها على اتخاذ خطوات جدية لكي تسمح حقاً بإدخال الكمية الكافية والضرورية من المساعدات لإنقاذ الأرواح”.

ومع ذلك، كانت نبرة القلق تتصاعد في النداءات التي تطلقها منظمات الإغاثة. في تقريرها الصادر في التاسع أبريل اتهمت “هيومن رايتس ووتش” إسرائيل “بالاستمرار في ارتكاب جرائم حرب، من خلال العقاب الجماعي وتعمد عرقلة المساعدات الإنسانية واستخدام تجويع المدنيين سلاح حرب”.

الأمور تتجه نحو الأسوأ

صرحت الأمم المتحدة مرات عدة بأنه عند صدور الإعلان الرسمي بتفشي المجاعة، سيكون الوقت قد فات للحؤول دون وقوع آلاف الوفيات. ويتطلب هذا الإعلان جمع بيانات دقيقة إلى أبعد الحدود، لا يمكن الحصول عليها في ظل انعزال شمال غزة المستمر بسبب الاقتتال. وبحسب معطيات الأمم المتحدة، يواجه أكثر من نصف سكان غزة – نحو مليون و100 ألف شخص – انعدام الأمن الغذائي الكارثي. وهذه أعلى نسبة من إجمالي السكان في مكان واحد تسجل عالمياً على الإطلاق. يعاني طفل من كل ثلاثة تحت عمر السنتين سوء التغذية الحاد.

في هذه الأثناء، لم يفرض الرئيس شروطه بالنسبة إلى إيصال المساعدات الضرورية.

وهذا التناقض هو سبب الاستياء الكبير داخل الحكومة الأميركية، ولا سيما في صفوف الأشخاص الذين مهمتهم منع الناس من الموت جوعاً. 

وقال موظف “يو إس آيد”  “أعتقد بأن الولايات المتحدة متواطئة في تهيئة ظروف تفشي المجاعة. لم تكن استجابتنا غير كافية إلى حد يرثى له فحسب، بل نحن مسؤولون بشكل فعلي عن جزء كبير منها”.