البحث عن الذات في رواية  قارب من ورق

قاربٌ ومن ورق، رواية قصيرة صدرت مؤخراً للكاتب السوداني المقيم في ألمانيا أمير حمد، تقع الروية في مئة صفحة تقريباً وقد  سبق وأن صدرت في البداية على شكل قصة قصيرة، إلاّ أنّ الكاتب أشتغل على تطوير النص و توسيع بؤرة أحداثه ليشمل فضاء أوسع فأضاف إليه شخصيّات وأحداث وأمكنة جديدة، حتى غدا رواية قصيرة.

تبدأ الرواية من عتبة مكانيّة مألوفة للراوي، وهي أحد منزهات مدينة ألمانية، حيث يعيش هناك، وهو الذي تنوس حياته كما كلّ الألمان بين ” العمل والملل” فيُغرم بالأشجار، إذ يرى أنّ الشجر يشبه الإنسان، فيُشعل فيه الحبّ لوطنه ويدخله في باب الذكريات و التداعيات.

تبدو الأشجار حاضرة في الرواية من خلال مقولات الكاتب وأمثولاته. إذ أنّ أشجار المنتزه هنا تحيله إلى أشجار يعرفها في بداية شبابه، نبتت هناك على طرفي النيل في السودان فيخطّ اسمه مع قلب يخترقه سهم على جذع شجرة.

ويتذكر مقولة البائعة في مشتل الورد حين نصحها والدها ” تزوجي رجلاً كالشجرة يظلك ظلّه، ويطعمك، ويسرّ نظرك حين تنظرين إليه..”

في هذا المنتزه الجميل الذي يتخيله الكاتب عبر تقلّب فصوله فهو المعادل الرمزي المكاني في الرواية  لـ ” ألمانيا”  يستلّ الراوي الحكايات من رواد هذا المنتزه، ويركّب القصص على عدّة طبقات ومستويات إذ أنّ الراوي العليم الذي دخل إلى المنتزه أختفى وبدأت الأحداث تتوارد على لسان من التقى بهم، وراح المكان يتشتّت ويتباعد، شيئاً فشيئاً، بين ألمانيا والسودان وأميركا وغيرها من الأمكنة، وصارت القضايا المطروقة عبر السرد تأخذ منحى مختلفاً، لكنها في الغالب تنشغل بالتصدّي لموضوعات انسانية في غاية الأهمية منها قضية الهجرة واللجوء وتغير المناخ، وعلاقة الانسان بوطنه الأم من خلال الحنين الذي يشدّه إليه أو السردية المعاكسة، الوطن الطّارد بسبب الحرب، إلاّ أن موضوعاً أساسياً اشتغلت عليه الرواية، هو موضوع  التمييز العنصريّ واضطهاد السود، الموضوع القديم المُتجدد دائماً.

جاء ذلك في الرواية عبر مذكّرات جنديّ أمريكيّ “أسود” يُعاني من التهميش في الحياة وفي المؤسسة العسكرية.

” رون” الجنديّ الذي عاش في أمريكا وحارب في أفغانستان، ليحطّ به الرحال أخيراً في ألمانيا والذي قضى بسكتة قلبية مفاجئة، وقد شكّل رحيله عن مسرح حياة “كرستل وأمّها” فراغاً كبيراً، لما يحمله من روح شفّافة طيبة يحسّ بآلام الآخرين.

من خلال مذكّرات رون التي ترويها كرستل، بعد وفاته، يرسم الراوي صورة إنسانية لحياة “رون” ، فيجهد في رسم صورة أقرب إلى المثالية.

الجندي الأمريكي الأسود الرحيم طيب القلب الذي يقاتل في أفغانستان!؟ والذي يُطعم امرأة أفغانية فقيرة على عكس ما يفعله الجندي الأمريكي الأبيض.! وفي كثير من المواقف التفاضلية التي سعت الرواية لتأكيدها في مواجهة قضية العنصرية ضد السود.

تتحدث الرسائل عن علاقة رون بالمرأة والمجتمع المحيط ومعاناته وانكسار أحلامه وخيبة أمله حين اعتقد أن المؤسسة العسكرية كفيلة بدمج البشر وإبعادهم عن قضايا التمييز العنصري ليكتشف العكس، فيكتب عن معاناته من الضباط البيض. من جهة أخرى يحمّل الراوي وجهات نظره اتجاه العالم والموت والفنّ فهو يرى أنّ “أمريكا واجهة برّاقة في حين أنّها جحيم متّقد”  أو “القضاء الأمريكي أبيض”

بالإضافة إلى ذلك  تعالج الرواية قضية العنصرية من زاوية أخرى من خلال علاقة كرستل بأباتشي الرجل الهندي الأحمر والذي تسردُ أيضاً مذكراته وحديثه عن القسر الديني والتطهير العرقي الذي تعرّض له الهنود الحمر في أمريكا ومن خلال دور الكنائس في التبشير الديني في مرحلة  الصراع على الأرض في القارة الأمريكية

في نهاية الرواية يعود الكاتب إلى وطنه السودان، رغم صعوبة العودة إليه إلا أنها كانت بمثابة تصفية حساب مع أشياء كثيرة معلقة في ذاكرة الكاتب وروحه تلحّ عليه، حبيبته السابقة، أصدقاؤه، الأمكنة التي تناديه، يضعها جميعا في قارب من ورق عند عودته إلى ألمانيا حيث المنتزه الذي يحبّه ثم يحملنا معه في قاربٍ من ورق، يعبرُ بنا مياهَ ذاكرة تتدفّق عبر صور وألوان البشر، وفي أمكنة كثيرة، ومحطّات من العذاب الإنساني، تتمثل أمامنا في كلّ محاولةٍ للرسوّ، حيثُ البحث المحموم عن إنسانية الانسان عن كينونتهِ وذاته، في رحلة هذا القارب لا يقهر الانسان سوى الانسان، حين تغدو له مخالب ويجد ضالته في جسد أخيه المقهور، والأمكنة طاردة أبداً، وأشباح القهر لا تلاحقه فحسب وإنما تنتظره على الضفة الأخرى في كلّ شاطئ.

في هذه الرواية يعبر بنا نحو داخلنا المهزوم الذي ينتظر دائماً شُعلة نور أو نار وفي الغالب ثورة لعلها تهديه إلى شاطئ الأمان و تعيدهُ إلى جذوره، فلربما يجد نصره في ذاتهِ، هذا  النصر سوف ينبتُ من ذاتِ التربة و التي جُبِلَ منها وصار فخاراً وأشجاراً وجبالاً لا تقهر.

في رواية قارب من ورق رغم قصرها إلاّ أنّها تحمل أبعاداً إنسانية وروحيّة كثيرة وأحسبُ أنّ هذا التوسع الكبير في الشخصيات والأمكنة والقضايا، يتطلب توسعاً أكبر في مساحة السرد، خاصّة مع وجود عددٍ من النصوص الشعرية  التي توزعت على مساحة  النص الروائي لتغدو رواية كاملة تستوعب كلّ هذه القضايا المتشعبة التي طرحتها وعالجتها.