العنصرية والأقليات في الغرب

نور الدين العويدي

شهدت أوروبا في الأعوام القليلة الماضية تناميًا واضحا للحركة العنصرية المعادية للأجانب. ولعبت عوامل متعددة دورا بارزا في تغذية المشاعر والحركات العنصرية، ووفرت لها المبررات السياسية والأيديولوجية التي تغذي نشاطها المتزايد الذي تنمو فيه وتترعرع.

فقد كشفت استطلاعات للرأي ومناسبات انتخابية عديدة عن تنامي أنصار الحركات العنصرية في أكثر من بلد أوروبي. وبالرغم من أن هذه الحركات لم تصل بعد في العديد من الدول الأوروبية إلى أن تصبح خطرا داهما، فإن التوقعات تشير إلى أنه سيكون لهذه الحركات المتنامية خطر حقيقي في السنين اللاحقة إذ لم تتخذ الإجراءات الكافية للوقوف في وجهها.

لقد صارت عمليات الاعتداء على الأجانب من الظواهر المميزة للعديد من المدن الأوروبية. وسجلت العديد من تلك المدن مواجهات دامية بين الشبان العنصريين من ناحية وبين الشبان الآسيويين أو الأفارقة السود أو الأتراك أو العرب والمسلمين من جهة ثانية. لكن الشرطة وقفت في العديد من تلك المناسبات إلى جانب العنصريين أو تصرفت بعقلية عنصرية رغم أنه يفترض فيها أن تكون حامية للأقليات، ومتعقبة للجماعات العنصرية التي تجرمها معظم القوانين الأوروبية.

وقد كشف استطلاع للرأي – أجراه مركز “موري” المتخصص في استطلاعات الرأي  في دول أوروبا الغربية – أن 1 من كل 5 أوروبيين (21 في المائة) يعتبرون وجود الأجانب وأبناء الأعراق الأخرى وقضايا الهجرة واللجوء السياسي من أهم الانشغالات التي تشد اهتمامهم.

الثقافة والإعلام والبطالة دعمت العنصرية

تلعب العديد من العوامل السياسية والثقافية والاجتماعية أدوارا متباينة الحجم والتأثير في تغذية الحركة العنصرية في أوروبا. ويمكن أن نذكر منها العوامل التالية، باعتبارها العوامل الأكثر تأثيرا في نمو الحركة العنصرية:

ـ  ثقافة التفوق العرقي والفردية الغربية وتميز الجنس الأبيض. وهي ثقافة ساهمت مساهمة كبيرة في صناعة تاريخ أوروبا والغرب الحديثين، وبررت موجات الاستعمار والهيمنة وتدمير الشعوب الأخرى في مختلف قارات العالم.

وبالرغم من تخلي المجتمعات الغربية الحديثة عن كثير من مسلمات هذه الثقافة – بل ونمو ثقافة مناهضة للعنصرية فيها – فإن صورا عديدة من ثقافة التفوق والتميز لا تزال تعشش في أعماق الوعي واللاوعي الأوروبي والغربي، فتنتج أجيالا من العنصريين المتشبعين بنظرة التفوق والتميز على العالمين.

وبالرغم من أن العنصرية الأوروبية – في أشكالها الأكثر وضوحا وفجاجة – قد انتهت إلى التحطم والانكسار- بانكسار الحركة النازية والفاشية، وهما حركتان عنصريتان بامتياز – إلا أن ثقافة الحلفاء المنتصرة لم تكن بريئة من لوثة العنصرية، التي تجلّت ممارساتها البشعة في الدول البعيدة عن أوروبا في إفريقيا وآسيا وأمريكا واستراليا.

– تزايد فقدان المجتمعات الغربية لثقتها في نفسها. ومدى ثقة المجتمعات في نفسها من العوامل البالغة التأثير في دفع المجتمعات إلى الانفتاح على الآخر، أو الانكماش في وجهه. فمع الانكماش الجزئي للنفوذ الأوروبي، ومع تراجع الإمبراطوريات الاستعمارية الكبيرة، وتراجع قدرة المجتمعات الغربية على صناعة الأيديولوجيات الكبرى – كما كان شأنها في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين – وظهور أقطاب اقتصادية وسياسية وأيديولوجية وعسكرية في شرق آسيا في الصين واليابان وفي العالم الإسلامي منافسة للنفوذ الأوروبي خاصة والغربي عامة، بدأت المجتمعات الغربية تشعر بضعف ثقتها في نفسها.. ومن ثم بدأت الحركات العنصرية فيها تنمو وتترعرع وتحتل المشهد السياسي في أكثر من بلد أوروبي.

– الإعلام الغربي، وهو إعلام يقوم على ترسيخ صور نمطية عن الذات والآخر: الذات باعتبارها رمزا للتقدم والنجاح والتحضر، والآخر باعتباره أقرب إلى التوحش والبدائية وقلة الحضارة.

وتقوم وسائل الإعلام في معظم الدول الغربية بالتركيز على العديد من القضايا التي توقظ المشاعر العنصرية في الضمير الأوروبي. فتركيز الإعلام على قضايا اللجوء والهجرة والجماعات المتطرفة في الغرب، وتصوير المجتمعات الأصلية للأقليات العرقية والدينية – التي تعيش في الغرب – باعتبارها مجتمعات للحروب والتخلف والعنف والإرهاب، تصنع هالة من التوجس والخوف والانطواء تجاه الأجنبي “البربري” أو “المتوحش” القادم إلى قلب الجنة الغربية من أجل إفسادها وتدميرها.

وفضلا عن تركيزها على الجوانب السلبية في حياة الأجانب والأقليات العرقية التي تعيش في الغرب، وتهميش صور النجاح والتميز التي يحققها أبناء الأقليات، تعمد بعض وسائل الإعلام الغربية أحيانا إلى تحميل الأجانب مسؤولية الكوارث أو الأزمات التي تعرفها بلدانها.

وتعتبر صورة العرب والمسلمين المشوهة – والمقترنة في الإعلام الغربي بكل ما هو قبيح وسيئ – أحد أبرز المظاهر على دور الإعلام والتعليم ومختلف أجهزة الثقافة الشعبية في إنتاج الكراهية والحقد على العرب والمسلمين لدى الغربيين. وهي الظاهرة التي تعرف اليوم في الدراسات الاجتماعية الغربية باسم “الاسلاموفوبيا”، أي الخوف والتخويف من الإسلام، وتصويره باعتباره بعبعا يهدد الحضارة الغربية.

– انتشار البطالة بين الشبان الغربيين – الذين يشعرون أن الأجانب “زحفوا” على دولهم، وصاروا ينافسونهم كيد عاملة رخيصة. وهذا العامل له أهمية بارزة. وقد أثبتت استطلاعات الرأي أن قضايا البطالة من الانشغالات الرئيسية لدى المواطنين الأوروبيين، إلا أن هذا العامل يظل عاملا محل جدل ومقاربات مختلفة. فالأجانب لا يمثلون منافسا حقيقيا في سوق العمل الأوروبي، إذ تخضع السوق في أحيان كثيرة إلى انتخاب غير مصرّح به على أساس عرقي.

فصاحب العمل حين يتقدم له شاب من أهل جنسه من البيض، وشاب آسيوي أو إفريقي أو مغاربي أو تركي – يتنافسان على منصب شغل – يفضل بشكل شبه آلي الشاب الأوروبي على الشاب الأجنبي. فلا يحظى المتنافسان منذ البداية بفرص متساوية، إلا أن يكون الأجنبي متمتعا بمزايا استثنائية لا يتوفر عليها منافسه.

إن الأيدي العاملة من الأجانب يشتغل معظمها في المهن الثانوية أو المهن “القذرة” التي يترفع عنها الغربيون، وهو ما يجعل الحديث عن البطالة باعتبارها سببا من أسباب استفحال العنصرية مسألة غير دقيقة. فالبطالة مرتبطة بوضع الاقتصاد الحديث وتقلباته أكثر مما هي مرتبطة بالمنافسة الأجنبية الضعيفة.

– التصرفات السيئة والمشينة لبعض الأجانب وأبناء الأقليات العرقية المقيمة في الغرب: من عنصرية مضادة، وتورط في شبكات الجريمة والاتجار بالمخدرات، أو العيش عالة على دافعي الضرائب الغربيين، إذ يساهم العديد من الأجانب وأبناء الأقليات العرقية والدينية في تغذية العنصرية ضدهم بما يبدر منهم من سلوكيات مشينة مثل التحايل على القوانين والركون الطوعي إلى البطالة والعيش على الإعانات الاجتماعية، أو الانخراط في عصابات الجريمة المنظمة، أو في جماعات دينية أو سياسية متطرفة. تلك التصرفات تشعر المجتمعات الغربية بأنها مهددة في أمنها وهويتها الثقافية والدينية والاجتماعية، بما يزيد من تغذية المخاوف لديها من الأجنبي ومن أبناء الأقليات.

ويلعب الإعلام في هذا الصدد – عن قصد أو  غير قصد – دورا بارزا في تسليط الأضواء على تلك الجماعات وتلك السلوكيات المشينة، ويعمد إلى إبرازها وكأنها تمثل التيار العام داخل الأقليات.

إنه بالرغم من المسؤولية الأكيدة لعدد من الأجانب أو أبناء الأقليات في تغذية العنصرية ضدهم، فإن أسباب العنصرية عميقة – وليست مجرد رد فعل على سلوكيات الأجانب ومنافستهم للأوروبيين في الوظيفة، أو عيشهم على حساب دافعي الضرائب؛ بل ترجع إلى أسباب أعمق من هذه الأسباب أو الظواهر التي هي في الواقع نتائج للعنصرية أكثر من أن تكون أسبابا لها.

إن أكثر السلوكيات السيئة الصادرة من الأجانب يمكن اعتبارها رد فعل على كيفية تعامل المجتمعات الأوروبية مع تلك الأقليات. فعمليات التهميش الاجتماعي والسياسي، وعمليات النبذ  والإقصاء خارج النسق العام – التي تمارس في أوروبا والغرب عموما ضد المهاجرين وأبناء الأقليات العرقية والدينية بشكل منظم أو عفوي – يمكن اعتبارها من نتائج العنصرية ضد الأقليات. فالإقصاء والنبذ والعنصرية هي التي تولد مظاهر التطرف والجريمة والعنصرية المضادة، ويتولى الإعلام تضخيمها حتى يؤكد الصور النمطية السلبية ضد المهاجرين وأبناء الأعراق الأخرى.

فالعنصرية المضادة لدى الشباب الأسود والانخراط في عصابات الجريمة المنظمة هو رد غير واع أحيانا – وواع أحيانا أخرى – ضد قرون الاضطهاد والعبودية الراسخة في أعماق الأجيال السوداء. أما انضواء عدد من الشباب الآسيوي في بريطانيا، أو الجزائري في فرنسا، أو التركي في ألمانيا في الجماعات الإسلامية المتشددة والتكفيرية، فهو في الواقع – في كثير من وجوهه – رد فعل على تهميش هذه المجتمعات لأولئك الشباب، وسد أبواب الاندماج المهني والوظيفي والنفسي في داخل بلاد المهجر.

فالشاب الذي ولد في هذه البلاد، وحصل على جنسيتها وتربى فيها وعاش معظم عمره فيها، ولم يعرف له بلدا سواها- يفهم منه توجهه للتطرف والجريمة والعنصرية المضادة ضد المجتمعات التي تعمل على تهميشه وإقصائه. فهو يشعر أن البلد بلده – ولا بلد له سواه – يسعى للعيش فيها بشكل طبيعي؛ لكن سعيه ذاك يواجه بالتهميش والإقصاء والنبذ؛ فلا يجد سوى التطرف والعنصرية المضادة والجريمة المنظمة ردا على ذلك.

لكن مع ذلك يبقى الحوار هو الحل الأمثل لتفادي الصدام مع الآخر في محاولة لإنقاذ الإنسانية من ركام الماضي.

.